الحماية القانونية للموروث الثقافي الانساني
محمد العسري باحث بسلك الدكتوراه.
تقديم
يعد الموروث الثقافي للدول والشعوب رصيدها الدائم من التجارب والخبرات والمواقف التي تعطي الإنسان القدرة على أن يواجه الحاضر ويتصور المستقبل، باعتبارها أهم مكونات القدرة الطبيعية والبشرية الممتدة إلى عمق جذورها التاريخية، إلا أن هذا الموروث الثقافي يواجه اليوم في العديد من الدول، لاسيما تلك الدول التي تمتد حضارتها إلى أعمق التاريخ لجملة من المخاطر التي تهدد بقاءه واستمراره كشاهد على الحضارة الإنسانية بمراحلها المختلفة، ويأتي في مقدمة هذه المخاطر ما تتعرض له من تدمير وتلف أثناء النزاعات المسلحة، بالإضافة إلى الاتجار غير المشروع ، حيث توجد تجارة عالمية مزدهرة ومتنامية عبر العالم بالممتلكات الثقافية التي تمثل ذاكرة وتاريخ ومصدر اعتزاز الكثير من دول العالم.
لكل أمة من الأمم ثقافتها الخاصة من خلال ممتلكاتها المعبرة عن معتقداتها الدينية وقيمها وعاداتها الاجتماعية واتجاهاتها السياسية، وبقدر ما تعطي الدول من اهتمام بثقافاتها، ترقى هذه الأمم وتتقدم، ومن خلال الثقافة وعطائها الزاخر حفظ لنا التاريخ صوراً معبرة عن الحضارات القديمة، والكتب والمؤلفات والنقوش القديمة ومظاهر أخرى كشف عنها وتم التعرف بها، كل ذلك يشير إلى أهمية الثقافة لنقل المعارف والعلوم من جيل إلى جيل آخر ومن أمة إلى أمة.
وإذا كان التاريخ كتابا مرموقا تبرز بين صفحاته نشأة الحضارات وانهيارات الأمم وتطور الفكر الإنساني وتسلسل المعرفة، فان التراث الحضاري بصوره المتعددة هو التجسيد الحي الذي يبرز التواصل بين حلقات الحضارة الإنسانية بشتى مسمياتها وعصورها، ويعد التراث مصدر المادة العلمية التي يستطيع العلماء والأثريون من خلال دراستها الوقوف على مكنونات الإنسان في عصوره الخيالية علماً وفكراً وأنماط الحياة الاجتماعية والسياسية، وحتى يبقى كتاب التاريخ مفتوحا تقرأ فيه الأجيال المتعاقبة، كان لزاما على كل جيل أن يبذل كل ما في وسعه للحفاظ على تراث من سبقه وان يحاول إبعاد ما شابه من فعل الزمن والطبيعة والإنسان.
إن البشرية تعاني اليوم من ويلات وأضرار الحروب وغيرها من صور النزاعات المسلحة ولم تتوقف تلك المعاناة عند إحداث الضرر بالإنسان وممتلكاته الشخصية وممتلكات الدولة ومرافقها الحيوية، بل امتدت إلى التراث الإنساني والثقافي والحضاري التي ترتبط به.
لقد عمدت الغزوات الاستعمارية والحروب العدوانية التي صبت جام عنفها وجبروتها على الممتلكات الثقافية للخصوم أو للعدو بغية طمس حضارتها والعمل على تخلفه حتى تسهل السيطرة والهيمنة عليه وفرض ثقافة الغازي والمعتدي، والمؤسف في ذلك انه يحدث في القرن الحادي والعشرين في وقت كانت تتطلع آمال البشرية إلى تعزيز ودعم واحترام القانون الدولي وتفعيل معطيات الشرعية الدولية، فضلا عن حدوث العدوان من الدول التي من المفترض أن تكون القدوة في احترام الشرعية والقانون الدولي.
وتعمل الدول في سبيل المحافظة على موروثها الثقافي ، باتجاهين قانونيين ، الاتجاه الأول يتعلق بإصدار وتطوير التشريعات القانونية الداخلية والتي نجد اغلبها ينص على عدم أتلافه أو إلحاق الضرر به أو تشويهه ، أما الاتجاه الثاني فيستند إلى المعاهدات والمواثيق الدولية حيث تسبغ تلك المعاهدات والمواثيق حماية دولية للموروث الثقافي بوصفه ارث حضاري يتطلب الحماية والمحافظة عليه بشتى الطرق .
لقد تأثر التاريخ بظهور الحضارات والديانات المختلفة وتعاقبها، فكان لذلك أبعد الأثر فى ارتفاع القيمة المعنوية للتراث الثقافي وزيادة الاهتمام بحماية عناصره خاصة مع كثرة الحروب وانتشارها وما تحمله من محاولات طمس المعالم الأثرية للدول وتدميرها، وهو ما جعل العالم يهب واقفاً لحماية الموروث الثقافي للشعوب، وكان ذلك من خلال عقد المؤتمرات الدولية وما أصدرته من قرارات، إلى جانب مبادئ الثورات التحررية، ومن نماذج ذلك قرارات ومبادئ الثورة الفرنسية سنة1791، والتي ركزت على الحماية المطلقة للآثار والأعمال الفنية، فكان من نتائج ذلك القرار التاريخي الهام الذي أصدرته الحكومة الفرنسية إنشاء متحف اللوفر .
- ومع تزايد خطر الحروب وأثر النزاعات المسلحة على سلامة التراث الآثري للدول فقد تم إعداد مشروع إتفاقية خاصة بحماية التراث الثقافي في عام 1823، وفي عام 1864 عقدت إتفاقية جنيف للصليب الأحمر التي عنيت بالمحافظة على التراث الثقافي والطبيعي العالمي وقت الحروب، واضعة نصب عينيها مسلك الدول المحاربة في هذا الشأن .وفي عام 1874 كان لمجهودات المكتب الدولي للبريد وتوصياته بالمحافظة على التراث الثقافي والطبيعي أثر كبير في وقف تعسف الدول الموقعة على إتفاقية إنشاء الاتحاد العالمي للبريد في استعمال حقها في الاتصال بما يؤثر على التراث الثقافي .
وقد حاول المجتمع الدولي أن يحد من التعديات التي تطال الموروث الثقافي، وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى الكثير من الاتفاقيات الدولية التي تشكل مرجعية قانونية يمكن إعمالها في هذا الخصوص
- الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية الموروث الثقافي :
تمثل في بادئ الأمر بإقرار اتفاقية باريس عام 1815 نصوصا بشان حماية بعض الأماكن .
الاتفاقية العامة لحماية البعثات العلمية عام 1885 و اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية عام 1886.
تمثلت بصورة محدودة من اللوائح المتعلقة باتفاقيتي لاهاي لعام 1899و 1907 حماية الممتلكات الثقافية في أوقات الحرب والمعدلة بوثيقة لاوسولت عام 1997.
اتفاقية سان جيرمان عام 1919 ومعاهدة باريس عام 1928 لنبذ الحرب .
ثم أعقب ذلك – لكن على المستوى الإقليمي – إبرام اتفاقية رويرش أو ميثاق واشنطن عام 1935 تنظم مسائل حماية الممتلكات والمؤسسات الثقافية وتعد أول وثيقة قانونية دولية ، تعالج مسألة الحماية للممتلكات والمؤسسات الثقافية معالجة شاملة .
اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولين الملحقين بها لعام 1977 .
اتفاقية لاهاي لعام 1954 والبروتوكولين الملحقين بها، الأول لعام 1954 والثاني لعام 1999 .
اتفاقية اليونسكو لعام 1970 المتعلقة بالتدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بوسائل غير مشروعة .
اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972 .
الاتفاقية الدولية لاسترجاع الممتلكات الثقافية المسروقة أو المصدرة بطرق غير مشروعة لعام 1995 .
اتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لعام 2001 .
اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003 .
اتفاقية حماية وتعزيز وتنوع أشكال التعبير الثقافي لعام 2005 .
كما تتعاون في الوقت الحاضر، ومنذ سنوات سابقة، منظمات دولية عديدة لحماية عموم الممتلكات الثقافية للشعوب وأهمها :
- المنظمات العاملة في مجال حماية الموروث :
المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو ) ومقرها باريس .
المنظمة العالمية لحماية الملكية الفكرية ( الويبو ) ومقرها جنيف .
منظمة الشرطة الجنائية الدولية ( الانتربول ) ومقرها باريس .
المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم ( الايسيسكو ) ومقرها الرباط .
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( اليسكو ) ومقرها القاهرة .
الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للوثائق ومقره بغداد .
- أهمية الموروث الثقافي الانساني
للموروث الثقافي أهمية إنسانية واجتماعية، وعليه فإن من المهم إطلاع الناس لاسيما الجيل الجديد على موروثات بلدهم ، فكل شعب ينبغي له أن يطلع على حضارته وموروثاته لكي تتعزز روحه الوطنية والإنسانية وتتحفز قدرته الإبداعية من خلال معرفته بما خلفه له من سبقوه، والاستفادة من خبراتهم ومهاراتهم لاسيما في مجال الإبداع الأدبي والفني والاستشهاد بالقيم السامية والنبيلة والسليمة التي كانت تسهم في جعل المجتمع او المجموعة البشرية في حالة صحية سليمة . إلى جانب إن الاهتمام بالموروثات يسهم في تعزيز الحوار بين الثقافات واحترام الإنسان لنفسه وهويته وانتمائه الوطني .
إن أهمية حماية الموروث الثقافي تتجلى في كونها إحدى أهم الوسائل للحفاظ على هوية الشعوب وما تحتضنه من تاريخ الإنسانية. إذ يعتبر الموروث الثقافي للدول تراثا مشتركا وملكا للإنسانية جمعاء. لذا فان حمايته في زمن الحرب والسلم شكل تاريخيا إحدى مسؤوليات المجتمع الدولي، الذي وضع تشريعات لعل أبرزها ما جاء في اتفاقية عام 1954 والبروتوكولين الملحقين بها.
خاتمة:
إن الاعتداء على الموروث الثقافي لشعب ما، لا يشكل اعتداء عليه فقط، بل اعتداء على شعوب العالم، من هنا جاءت ديباجة اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح لعام 1954 لتنص على أن: ” الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب كان، تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب ساهم بنصيبه في الثقافة العالمية”، لذلك فان المحافظة على الموروث الثقافي مهمة ومسؤولية الإنسانية جمعاء، لما لهدا الموروث من فائدة عظيمة لجميع شعوب العالم ينبغي أن يحظى بحماية دولية.
و مما لاشك فيه أن الهدف من وراء إقرار نظام الحماية القانونية للموروث الثقافي الانساني، كان الهدف منه هو حماية تراث الإنسانية جمعاء وصون لهوية الشعوب، وأن أي اعتداء على الموروث الثقافي هو اعتداء على الإنسانية.
المصـــــــــادر
- الكتب
- محمد عابد الجابري، نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة السادسة، 1993 .
- محمد الجابري، التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية ، بيروت، 1999.
- العوري حمودة ، التراث الثقافي وعلاقته بالتنمية في البلاد النامية،دراسة تطبيقيـة ، عالم الكتاب للنشر جامعة صنعاء ، الطبعة الثانية، 1981.
- حسن جوني، تدمير الأعيان الثقافية أو احتلال التاريخ، مجلة الإنساني، الصليب الأحمر،عدد 47 ،2010.
- جمال عليان، الحفاظ على التراث الثقافي، سلسلة عالم المعرفة، الكتاب 322، الكويت.
- طيب تيزيني، مفهوم التراث العالمي .. مدخل باتجاه التأسيس، مجلة عالم الفكر، العدد الرابع، أبريل ، 2008.
- صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة القانون الدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 2002.
- أسامة حسنين عبيد، الحماية الجنائية للتراث الثقافي الأثري دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى 2008 .
- أبو الخير أحمد عطية ، المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، دراسة للنظام الأساسي والجرائم التي تختص بالنظر إليها، دار النهضة العربية ، القاهرة ،
- شريف عتلم ، محاضرات في القانون الدولي الإنساني ، منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، القاهرة ،
- محمد ثامر مخاط ، عدنان محمد الشدود ، الحماية الدولية للممتلكات الثقافية (دراسة تطبيقية على الممتلكات الثقافية في محافظة ذي قار )، بحث منشور في مجلة الحقوق ، جامعة المستنصرية ، السنة السادسة ، المجلد الرابع ، العدد الخامس عشر ، 2011
- الاتفاقيات الدولية
- اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح لعام 1954.
- البروتوكول الأول الملحق باتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح لعام 1954.
- اتفاقية فينا لقانون المعاهدات الدولية لعام 1969.
- اتفاقية اليونسكو بشأن التدابير الواجب اتخاذها لخطر ومنع استيراد وتصدير ونقل الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة 1970.
- اتفاقية اليونسكو لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي 1972.
- البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقية لاهاي لعام 1954، الخاص بحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح، لعام 1999.
- اتفاقية اليونسكو (حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه) 2001 .
- اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي الشفهي 2003 .
- اتفاقية اليونسكو لاسترداد واستعادة الأموال الثقافية المسروقة والمصدرة بطريقة غير مشروعة 1995 .