القواعد الإجرائية لدعوى التحفيظ العقاري: رسالة لنيل دبلوم الماستر من إعداد زكرياء الموذن -الجزء الأول-

sample-ad

مـــقـــدمــــة:                                                     

لا ريب أن حضارة الأمم تقاس، ليس فحسب بالعلم والعمل الموروث عنها، بل كذلك بالمدى الجغرافي الذي احتضنها على الأرض، والحيز المكاني الذي يبقى شاهدا على وجودها عبر أزمنة التاريخ.

 ولعل منه، اكتسبت الأرض أهميتها في حياة الشعوب، التي ظلت تسعى إلى ابتداع سبل المحافظة عليها، وضمها وتثبيت امتلاكها.

ولقد شكل التحفيظ العقاري وما يزال، الوسيلة الحضارية لحماية الملكية وتقوية مناعتها، كما احتل مكانة متميزة على رأس الأنظمة القانونية الأكثر تطورا، لإدماج الملكية العقارية في الحياة الاقتصادية عبر تيسير عملية تداول العقار، وتشجيع حركة العمران وتنمية العالم الحضري والقروى، وتمكين الدولة من المعطيات ذاتقيمةهامة تساهم بإنجاز المخططات الاقتصادية والاجتماعية ذات الأبعاد الاستراتيجية، عبر توفير الوعاء العقاري الكافي لسد الحاجيات في مجال السكن وغيره، وتأمين ضمانات التملك، بما يحد من النزاعات، ويحمي الحقوق ويضمن استقرار المعاملات، وهي الشروط الكفيلة بضمان الأمن العقاري، أساس تنشيط التجارة العقارية وغيرها من التجارات المرتبطة بالعقار، وعماد البيئة الصالحة للاستثمار، وسند كل تنمية مستدامة.

على أن بلادنا، ورغم الوعي المبكر للمشرع بأهمية ضمان الأمن العقاري لتحقيق التقدم المنشود، ورغم الجهود كل المتدخلين القائمين في مجال التحفيظ العقاري، وعلى رأسها الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية، شريك القضاء الأول والدائم في تدبير الشأن العقاري، رغم كل ذلك لا يمكن الجزم بإزاحة كافة المعيقات والتحديات التي تحول دون بلوغ التطلعات.

فإذا كانت الملكية العقارية والحقوق العينية العقارية من أهم الثروات التي يرتكز عليها النظام الاقتصادي، فإن المنظومة القانونية المؤطرة للعقار، متنوعة ومتشعبة بتنوع واختلاف طبيعته، كما أن الإجراءات القانونية المؤسسة للحقوق، والمساطر القضائية الفاضة للنزاعات، تحتاج إلى سبل تسريعها وسلاسة سلوكها، إضافة إلى استحضار البعد الحقوقي والاجتماعي في تدبير المجال العقاري، بما يضمن الإنصاف والمساواة، ويساهم في تحقيق العدالة العقارية.

هذه العدالة التي لا يمكن أن يؤسس لها، مع كثرة المنازعات العقارية وتعقيدها وتداخل جهات الاختصاص بشأنها، إلى قضاء، واع بمسؤوليته في حماية الثروة العقارية، ملم بتنوع العقار واختلاف القواعد التي تحكمه. قضاء قادر على التطبيق العادل للقانون.

فإن اللجوء إلى القضاء يعدصورة من صور الحريات العامة، إذ لكل شخص له حقفي اللجوء إلى القضاء للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون، وهو ما تم تكريسهدستوريا[1]، وإذا كان الأصل في القواعد الإجرائية أنها ترد في قانون المسطرة المدنية [2]، باعتبارها الشريعة العامة لكل القوانين المسطرية،بموازاة مع ذلك قد أفراد المشرع مادة التحفيظ بمجموعة من الإجراءات المسطرية الخاصة، وطبعا لهذه القواعد أسبقية في التطبيق، باعتبار النص الخاص أولى بالتطبيق من النص العام. إلا أنه في غياب قانون مسطري خاص بمادة التحفيظ العقاري، على أساس أن هذا الأخير نظم مسائل مسطرية معينة، وأحال على قانون المسطرة المدنية في أحيان أخرى، وسكت عن تنظيم مسائل مسطرية أخرى.

ومتى كان العقار مجال استقطاب الاستثمار واستقرار المعاملات ومتى أصبح رهانا اقتصاديا وتنمويا،  كان من الضروري تدخل المشرع العقاري لسن مجموعة من النصوص التشريعيةحمايتا لحقوق تمس كل فرد يرغب في حماية ملكيته من الاعتداء والتسلط.

أهمية الموضوع:

إذا كانت الغاية للمتقاضياللجوء إلى القضاء، هو اقتضاء الحق، فإنه لا يكفي كون الحق مؤيدا بالحجج والمستندات، لنجزم بأحقية المتقاضي فيه، بل لا بد لاستيفائه من الامتثال لمجموعة من الإجراءات، لذلك قيل أن القواعد الإجرائية بمثابة الجسر الأساسي لإعمال الحماية القانونية المضمنة في قوانين الموضوع.

مما يطبعه البحث في هذا النظام الذي له أبعاد أمنية ذات أهمية بالغة، يتمظهر أساسا من حيث الدور الذي يمكن أن يلعبه جهاز القضاء في توفير الحماية الازمة للملكية العقارية، من خلال توظيف قواعد تخول تحقيق هذا المبتغى. الأمر الذي يستدعي الخوض في بعض جزئياته، خاصة أن ظهير التحفيظ العقاري[3]، تخظي هذه القاعده ، حين أفرد مجموعة من القواعد مسطرية تختلف عن نظيرتها في القضايا العادية، حيث جاء بخصوصيات مسطرية تبدأ منذ تقديم الدعوى إلى غاية تنفيذ الحكم القضائي.

وأيضا لأهمية العقارات المحفظة التي تساهم في تحقيق الثبات والاستقرار وحماية الحقوق والحد من النزعات، نهجت الدولة سياسة عقارية هدفت من خلالها بلوغ أكبر نسبة ممكنة من التحفيظ وتحقيق الأمن العقاري المنشود.

ومن خلال ما تكتسي دعوى التعرض على مطلب التحفيظ أهمية بالغة على المستويين النظري والعملي، خاصة على مستوى الممارسة العملية، وذلك للدور الذي تلعبه التعرضات باعتبارها وسيلة لحماية حق الملكية العقارية، والحقوق العينية العقارية، كما أنها الوسيلة القانونية الوحيدة التي تمكن من يدعي ملكية حق شمله مطلب التحفيظ وهذا الأمر الذي يخوله  استرداد حقه.

صعوبات البحث:

أثناء تناول هذا الموضوع كان من البديهي،أن تعترضني مجموعة من الصعوبات أثناء إعداد هذا البحث، نظرا لصعوبة الإحاطة بنظام التحفيظ العقاري في شموليته، باعتبار ظهير التحفيظ العقاري قانون موضوع وشكل في نفس الوقتمما وجب اقتصار على مسطرة التحفيظ في شقها القضائي،لما لهذه المرحلة من دور دفاعي وحمائي للحقوق والمصالح الثي يحميها القانون.

وأيضا محدودية تقديم المساعدة العلمية للطالب من طرف بعض المحاكم خصوصا منح الأحكام والقرارات القضائية.

 

إشكالية البحث:

رغبة في إبراز فاعليةالقواعد الإجرائية لدعوى التحفيظ العقارية، وما حظي به مجال التحفيظ العقاري من طرف المشرع من اهتمام في الآونة الأخيرة، وقع الاختيار على هذا البحث الذي موضوعه يطرح العديد من الاشكاليات تتمحور أساسا حول مدى خصوصيات التي يمتاز بها القضاء المغربي في التصدي لحل المنازعات العقارية التي تفرزها مسطرة التحفيظ ؟

كماأنموضوعالبحثيثيرمجموعةمنالتساؤلاتالفرعية والتي تكمن في لآتي:

  • ما هو الإطار التشريعي لإجراءات المسطرية لافتتاح الدعوى والتدخل فيها؟
  • ما هي ضوابط التحقيق في الدعوى والحكم فيها ؟
  • ما هي طرق الطعن في الحكم الصادر في دعوى التحفيظ ؟
  • ما هي إجراءات تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في دعوى التحفيظ العقاري ؟
  • ما مدى صلاحية المحافظ في إثارة صعوبات التنفيذ في حالة وجودها؟ما الجهة المختصة في النظر فيها ؟

منهج البحث:

للإحاطة بالموضوع ومناقشة إشكاليته المذكورة والإجابة عن التساؤلات الفرعية، فإنه يقتضي مناالأمر توظيف مناهج البحث العلمي،وقد اعتمدنا في موضوعنا هذا على كل من المنهج الوصفي والوظيفي،مستعينا بأسلوب تحليلي نقدي، ومن خلالهذه المناهج سنحاول نتعرض إلى عناصر الأساسية وآخري جزئية للموضوع، وذلك بتحليل النصوص المؤطرة لدور القضاء في ميدان التحفيظ العقاري، وتحليل الأحكام الصادرة عن مختلف محاكم المملكة لا سيما محكمة النقض، كما سنعمل على توظف المنهج المقارن،نظرا إلى طبيعة الموضوع الذي يقتضي مقارنة قواعد الشكل الواردة في قانون المسطرة المدنية، والأخرى الواردةبظهير التحفيظ العقاري، لمعرفة الخصوصيات التي جاء بها هذا الأخير، وتقييمها، ومحاولة استجلاء ما إذا كانت قواعد القانون الاجرائي العام تقدم حلولاً لما تعانيه نزاعات التحفيظ، دون أن يعني هذا إقصاء باقي المناهج.

خطة البحث:

ولمعالجة الموضوع القواعد الإجرائية لدعوى التحفيظ العقارية سنقسمالبحثوفقتقسيمثنائيكالتالي:

  • الفصل الأول: أتطرق فيه إلى الضوابط المسطرية لدعوى التحفيظ العقارية من خلال مبحثين اثنين:
  • المبحث الأول: نتناول فيه افتتاح الدعوى والتدخل فيهافي إطار القواعد التشريعية المؤطرة لإجراءات الدعوى، والحديث عن تقييد الدعوى ومدى إلزامية تنصيب محامٍ في دعوى التحفيظ العقاري في المطلب الأول، ثم التدخل أمام قضاء التحفيظ العقاري المطلب الثاني.
  • المبحث الثاني:للوقوف على ضوابط التحقيق في الدعوى والحكم فيها، أتناول فيه دور القاضي المقرر والنيابة العامة في نزاعات التحفيظ المطلب الأول،تم إلى أهم المبادئ التي يعتمدها القضاء في إصدار الأحكام في دعوى التحفيظ العقاري المطلب الثاني.
  • الفصل الثاني: ندرس فيهطرق الطعن في دعوى التحفيظ وتنفيذها مع تقسيمه إلى مبحثين:
  • المبحث الأول:نتطرق فيه طرق الطعنفي الحكم الصادرفي دعوى التحفيظ، أتطرقللطعن بالاستئناف وخصوصياته في المطلب الأول، على أن أخصص الحديث في الطعن بالنقض في القرارات الصادرة في دعوى التحفيظ المطلب الثاني.
  • المبحث الثاني:نتحدث عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مادة التحفيظ العقاريوذلك من خلال التطرق في المطلب الأولإلىمجالات تنفيذ المحافظ العقاري للأحكام القضائية الصادرة في نزاع التحفيظ، على أن أتناول في المطلب الثانيصعوبات تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مادة التحفيظ العقاري.

 

الفصل الأول:

الضوابط المسطرية لدعوى التحفيظ العقاري

الفصل الأول: الضوابط المسطرية لدعوى التحفيظ العقاري

تمر عملية التحفيظ عبر مجموعة من المراحل،انطلاقا من إيداع مطلب التحفيظ، مرورا بإنجاز عملية التحديد وإشهار الحقوق الناشئة خلال المسطرة[4]، وإيداع التعرضات على مطلب التحفيظ في حالة وجودها، لتنتهي المسطرة بتأسيس الرسم العقاري[5].

إلا أنه بالرغم من كون مسطرة التحفيظ تحتل فيها المرحلة الإدارية الحيز الأكبر، على اعتبار أنها تبدأ إدارية وتنتهي إدارية، فإن البت في التعرضات يعتبر مرحلة جد هامة في مسطرة التحفيظ العقاري، بحيث إن حق الملكية يتأثر بحسب النتيجة التي ينتهي إليها التعرض، إما في صالح المتعرض وإما في صالح طالب التحفيظ، ومع ذلك فإن هذه المرحلة كانت ولا تزال ضياع الحقوق، أو على الأقل التأخر في اقتضائها.

ولعل السبب يرجع لعدة عوامل أجملها في عاملين، يتجلى لأول في القصور التشريعي ، والثاني في اضطراب الحاصل في الاجتهاد القضائي أثناء تفعيله لمقتضياتظهير التحفيظ العقاري الذي تم تعديله وتتميمه بقانون رقم 07-14 المتعلق بالتحفيظ العقاري. ذلك أن التنظيم التشريعي لم يكن تنظيما دقيقا يحيط بجميع الإشكالات التي يطرحها نزاع التحفيظ، ذلك أنه قلص من سلطات القضاء في مجال يتعلق بحق دستوري، ألا وهو مجال حماية الملكية العقارية، وهذا يظهر جليا من خلال الفقرة الثانية من الفصل 37 من ظهيرالتحفيظالعقاري، الذي نسخ وعوض بالقانون رقم 07-14[6] والتي تعتبر بمثابة حجر الزاوية،التي وضعها المشرع لتحديد الإطار العام لنطاق اختصاصات محكمة التحفيظ، أثناء بتها في التعرضات والتي لا يمكن تجاوزها، وهي وجود الحق وطبيعته ومشتملاته ونطاقه.

وإذا كان المشرع قيد من دور القضاء أثناء البت في التعرضات فإن الاجتهاد القضائي قد استنبط من هذه الفقرة الأخيرة قيودا أخري عمقت بدورها الإشكالات التي تطرحها مسطرة البت في التعرضات. إضافة إلى أنه ظل قاصرا على مستوى القواعد المسطرية المطبقة في قضايا التحفيظ، بحيث أفردها هذه الأخيرة بمجموعة من المقتضيات الخاصة سواء على مستوى افتتاح الدعوى أو سيرها، وذلك بالنظر إلى الطبيعة المميزة لهذه القضايا، وأحال في أحيان كثيرة على مقتضيات قانون المسطرية المدنية[7]، غير أنه سكت عن تنظيم مسائل مسطريه أخرى، الأمر الذي طرح إمكانية الرجوع إلى قانون المسطرة المدنية لتجاوز النقص الحاصل في ظهيرالتحفيظالعقاري.

ولم يقتصر المشرع على إفراد قضايا التحفيظ بقواعد مسطريه خاصة، بل جاء بخصوصية أخرى، تتمثل في كون نزاعات التحفيظ يتدخل فيها طرف إداري، أي وجود قواعد اجرائيةلم تقتصر على مقتضيات القانونية فقط، بل أيضا شملت على الأجهزة المتدخلة في نزاعات التحفيظ، ذلك خلافا للقواعد العادية التي تنطلق بمقال افتتاحي يقدم إلى المحكمة المختصة، فإنه في قضايا التحفيظ، ينطلق النزاع أمام المحافظ العقاري، حيثخولالمشرع لكل من له حق أو مصلحة في العقار المراد تحفيظه التعرض عليه، لتتوقف المرحلة الإدارية للتحفيظ، وتبدأ المرحلة القضاء، وذلك بإحالة الملف على كتابة ضبط المحكمة الابتدائية التي يوجد بدائرتها العقار، لتبت المحكمة في وجود الحق المدعى به من قبل المتعرضين، ونوعه ومحتواه ومداه.

ونظرا للطبيعة المميزة لقضايا التحفيظ العقاري، فقد أفرد لها المشرع العديد من القواعد الإجرائية على مستوى جميع درجات التقاضي، إلا أنه سيتم الاقتصار في هذا الفصل على الضوابط المسطرية أمام محكمة الدرجة الأولى، بدء من افتتاح الدعوى إلى حين صدور الحكم وتبليغه، مع التركيز على موقع قانون المسطرة المدنية في قضايا التحفيظ العقاري، وأساسا ما طبعه الاجتهاد القضائي المغربي من اضطراب بهذا الخصوص.

وعليه سيتم تقسيم هذا الفصل إلى مبحثين، سيتم الحديثفي (المبحث الأول) عن افتتاح الدعوى والتدخلفيها، على أن أتناول في (المبحث الثاني) عنضوابط التحقيق في دعوى وإصدار الحكم.

المبحث الأول: افتتاح الدعوى والتدخل فيها

لم يقم المشرع المغربي بتعريف الدعوى، مما ترك المجال للفقه، حيث ذهب جانب منه إلى تعريفها بأنها:” وسيلة قانونية لحماية الحق مؤداها تخويل صاحب الحق إمكانية الالتجاء إلى القضاء لحماية حقه أو لضمان احترامه”. أو أنها:” سلطة خولها القانون للأفراد في الالتجاء إلى القضاء لتطبيق القانون”[8].

إذ تنطلق الدعوى أمام محكمة التحفيظ بشأن التعرضات بمجرد إحالة ملف التحفيظ من طرف المحافظ العقاري عليها، متضمنا لطلب التحفيظ، وطلب التعرض المقدم ضده، والوثائق المتعلقة بهما، والمحكمة المختصة التي تضع يدها على القضية هي المحكمة الابتدائية الكائن بدائرتها الترابية العقار، استنادا إلى الفصل 32 من ظ. ت. ع في فقرته الأخيرة الذي نسخ وعوض بالقانون رقم 07-14، والتي بمجرد وضع يدها على القضية تبقى مقيدة بالملف كما أحاله عليها المحافظ العقاري، نظرا لعدم وجود مقال افتتاحي للدعوى في قضايا التحفيظ على غرار القضايا العادية، الأمر الذي يطرح مدى صلاحية القضاء لمراقبة المرحلة الإدارية السابقة، أي قبل إحالة الملف من طرف المحافظ عليها.

وإذا كان الجواب بالإيجاب، هل بإمكانية القاضي طلب إتمام البيانات غير التامة أو التي وقع إغفالها، كما هو الشأن في القضايا العادية. وإن خصوصية البت في التعرضات من قبل القضاء لا تظهر فقط على مستوى شكليات تقديم التعرض، بل أيضا على مستوى التحقيق في الدعوى، وهي خصوصيات سنها مشرع ظهير التحفيظ العقاري لتسريع مسطرة التحفيظ العقاي، وصولا إلى إقامة رسم نهائي لا يقبل الطعن[9]، وذلك لإيمانه بأهمية العقار المحفظ في التنمية الاقتصادية الاجتماعية[10].

إلا أن هذا التنظيم التشريعي لم يقدم حلولا ناجعة لكل ما تعانيه نزاعات التحفيظ، الأمر الذي أثار التساؤل حول إمكانية الاستعانة بمقتضيات ق. م. م، لسد هذا النقص التشريعي الحاصل.وباعتبار أن مسطرة التحفيظ بالمغرب مسطرة إدارية بحسب الأصل، غير أنه قد تتخللها مرحلة قضائية في حالة وجود تعرضات، حيث يقوم المحافظ بإحالة الملف على كتابة ضبط المحكمة المختصة، وتعد الإحالة المباشرة على القضاء استثناءً من القواعد العامة المقررة في الفصل 31 من قانون المسطرة المدنية، حيث أعفى المشرع أطراف النزاع في قضايا التعرض على مطلب التحفيظ من تقديم المقال الافتتاحي، على أساس أن مطلب التحفيظ والتعرضات عليه والمستندات المؤيدة لهما والرسوم القضائية تقدم للمحافظ، وحين إحالة الملف على القضاء، فإنه يبقى ملزما بالبت في النزاع كما أحيل عليه من طرف هذا الأخير، وقد كانت هذه القاعدة مبررا لعدم قبول التدخل أمام قضاء التحفيظ العقاري باعتبار أطراف النزاع تتحدد أمام المحافظة العقارية. فإلى أي حد تعتبر هذه القاعدة صحيحة، وكيف تعامل معها الاجتهاد القضائي والفقهي؟

إن هذه الأسئلة، وغيرها ستتم الإجابة عليها في هذا المبحث من خلال تقسيمه إلى مطلبين: أتطرق في (المطلب الأول) تقييد الدعوى ومدى إلزامية تنصيب محامٍ في قضايا التحفيظ العقاري، على أن أتناول في (المطلب الثاني) التدخل أمام قضاء التحفيظ العقاري.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الأول: تقييد الدعوى ومدى إلزامية تنصيب محامي

حطي التعرض من خلال المرحلة القضائية بأهمية وخصوصية في مسطرة التحفيظ، فهو ادعاء في مواجهة طالب التحفيظ من أجل منازعته في حق ملكية العقار في جميع وعائه، أو في جزء منه، فقد حاول المشرع إقرار إجراءات تنظيمية لكيفية ممارسة دعوى التعرض لا سيما لما تتميز به هذه الأخيرة بمجموعة من القواعد الإجرائية الخاصة ، والتي لا يعمل بها في المنازعات العقارية الأخرى.

وعلى هذا الأساس سنحاول من خلال هذا المطلب إلى تبيان المسطرة الإجرائيةلتقييد الدعوى في قضايا التعرض على مطلب التحفيظ وما طبعها من خصوصيات(الفقرة الأولى)،مرورابالوقوف على الاجتهاد القضائي والفقهي من إلزامية تنصيب محام لمؤازرة أطراف النزاع في قضايا التحفيظ العقاري (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى:إجراءاتتقييد دعوى التحفيظ العقارية

إن قضايا التحفيظ العقاري لا تختلف عن باقي القضايا المعروضة على المحاكم من حيث درجات التقاضي، حيث يتم المرور من المحكمة الابتدائية إلى محكمة الاستئناف، ثم محكمة النقض، إلا أن الاختلاف يكون أحيانا على مستوى القواعد الإجرائية، وأول مظهر لهذا الاختلاف يتجلى في كون القضايا العادية ترفع بواسطة مقال افتتاحي مكتوب وموقع من طرف المدعي أو وكيله، أو بتصريح يدلي به المدعي شخصيا، ويحرر به أحد أعوان كتابة الضبط المحلفين محضراً يوقع من طرف المدعي، أو يشار في المحضر إلى أنه لا يمكن له التوقيع، وذلك حسب الفصل 31 من قانون المسطرةالمدنية، ويجب أن يتوفر هذا المقال على مجموعة من البيانات حددها الفصل 32 من نفس القانون، وأن تؤدى عنه الرسوم القضائية.

إلا أنه في قضايا التعرض على مطلب التحفيظ لا وجود لمقال افتتاحي، بل تتم إحالة الملف مباشرة من طرف المحافظ إلى المحكمة الابتدائية الكائن بها العقار[11]، وتحديد هذه الأخيرة لا يثير أدنى إشكال، مادام المحافظ هو الذي يحيل التعرضات إلى المحكمة المختصة[12]، غير أن المتعرض ملزم بتعيين موطن أو محل للمخابرة بدائرة المحافظة العقارية،  إذا لم يكن له محل بها، وفي حالة تعيين محل للمخابرة خارج دائرة المحافظة العقارية، فإن التبليغات والإنذارات توجه إلى مكتب النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية، لتتولى التبليغ[13].

وإذا كانت الرسوم القضائية تؤدى في المسطرة العادية أمام كتابة ضبط المحكمة، فإنه في قضايا التحفيظ العقاري تؤدى مسبقا أمام المحافظة العقارية، التي أصبحت تقوم بدور شبيه بدور كتابة الضبط[14] وإن كان هناك من رأى أن تحصيل الرسوم القضائية ينبغي أن يتم من طرف كتابة الضبط بالمحكمة، باعتبارها شكلية من شكليات المسطرة القضائية، كما تدل عليها تسميتها[15]، غير أن إعطاء المحكمة صلاحية استخلاص الوجيبة القضائية، كان يمكن أن يكون ذا فائدة لو تم الاحتفاظ بسلطة وكيل الملك لقبول التعرض الاستثنائي، حيث كان يتم إرجاع الملف إلى المحافظة لاستيفاء هذه الشكلية مع ما يترتب عن ذلك من بطء.

ومع ذلك كان ينبغي إعطاء الصلاحية للمحكمة أيضا لاستخلاص هذه الوجيبة، لتدارك بعض الأخطاء النادرة الناجمة عن إغفال استخلاصها من طرف المحافظ، خاصة وأن المحافظة تستخلص هذا الرسم لفائدة كتابة ضبط المحكمة الابتدائية الكائن بدائرتها العقار.

وينبغي استخلاص الرسوم القضائية عن كل تعرض[16]، ما عدا التعرضات المتبادلة الناتجة عن تقديم مطلبين أو أكثر للتحفيظ على نفس العقار، حيث أعفى المشرع صاحب المطلب الثاني المعتبر بمثابة متعرض من أداء الرسم القضائي.[17]

ويمكن للمتعرض طلب المساعدة القضائية في حالة عسرة[18]، وإذا لم يؤدى المتعرض الذي لم يحصل على المساعدة القضائية، قبل انصرام الشهر الموالي لانتهاء أجل التعرض يتم إلغاء تعرضه واعتباره كأن لم يكن.

وهو ما تبناه المشرع في ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14– وإن حافظ على اختصاص المحافظة العقارية بهذا الصدد- إذ جاء في الفصل 32 على أنه:” يعتبر التعرض لا غيا وكأن لم يكن، إذا لم يقدم المتعرض خلال الأجل المنصوص عليه في الفصل 25 من هذا القانون، الرسوم والوثائق المؤيدة لتعرضه، ولم يؤد الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو لم يثبت حصوله على المساعدة القضائية”.وفي حالة عدم اداء المتعرض الذي لم يحصل على المساعدة القضائية لهذه الرسوم داخل أجل ثلاثة أشهر يلغى التعرض، حسب الفقرة الرابعة من الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، وقرار المحافظ بهذا الصدد نهائي وغير قابل للطعن[19]، وتم تفسير ذلك على أن التعرض عبارة عن مقال افتتاحي للدعوى يتلقاه المحافظ، وتؤدى عنه واجبات التقاضي، شأنه شأن أي مقال افتتاحي يتم تقديمه لدى كتابة الضبط[20].

ويمكن للمحافظ على الأملاك العقارية والرهون تخفيض الوجيبة القضائية بطلب من الطرف المتعرض، حسب تقديره لأهمية النزاع، وذلك بمقتضى الفصل 32 سالف الذكر، كما يمكن للمتعرض أن يطلب المساعدة القضائية في حالة عسره، غير أنه نظرا لعدم إلمام جل المتعرضين بمثل هذه المقتضيات، فإنه يبقى من واجبات المحافظ العقاري الأخلاقية إخبار المعني بالأمر بها.

مما سبق يظهر أن ظ.ت.ع قد وسع صلاحيات المحافظ، في مقابل تضييق صلاحيات القضاء، وهذا لا يظهر فقط على مستوى تحصيل الرسوم القضائية بل حتى على مستوى المستندات المؤيدة للتعرض، حيث إنه في المسطرة العادية تودع هذه المستندات رفقة الطلب إلى المحكمة مباشرة طبقا للفصل 32 من قانونالمسطرةالمدنية، بخلاف ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، حيث تقدم إلى المحافظ العقاري، وفي حالة عدم تقديمها، يقوم هذا الأخير بإنذار المتعرضين بتقديمها للمحافظة داخل أجل ثلاثة أشهر، ويشعرهم أن المحكمة لن تقبل منهم أي رسم أو وثيقة. وإذا لم يقدم المتعرضون الرسوم المؤيدة لتعرضهم، أو لم يثبتوا أنه استحال عليهم تقديمها، فيمكن للمحافظ بعد البحث أن يقرر الإبقاء على التعرض أو اعتباره ملغى، وذلك حسب الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14.إن هذا الفصل لا يستسيغه القضاء لكونه يحد من سلطته في الفصل في التعرضات، كذلك الشأن بالنسبة للمتعرضين الذين لا يدركون لماذا يتم استبعاد وثائقهم أمام القاضي لمجرد عدم الإدلاء بها أمام المحافظ العقاري؟

ولتجاوز هذه الوضعية غير المنطقية هناك من يرى[21] أنه من الأفضل قبول المحافظ للتعرض رغم عدم تأييده بالمستندات، ويترك الاختصاص للقضاء ليقول كلمته، لما له من سلطة البحث والتقصي، بدل إضاعة الوقت في المراسلات والتأكد من أن المتعرض قد توصل بالإنذار من عدمه، وقد تجاوز القضاء الفصل المذكور أعلاه، إذ أصبح يقبل وثائق ثبوتية جديدة، ولو لم تقدم مسبقا إلى المحافظة العقارية[22].

ويعتبر قرار المحافظ بإلغاء التعرض غير المؤيد بالمستندات قابلا للطعن بالاستئناف أمام المحكمة الابتدائية داخل أجل 15 يوما من يوم تبليغ قرار المحافظ (الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14)، وأعتقد أن مصطلح الاستئناف في غير محله، على أساس أن المحافظ ليس سلطة قضائية لكي تستأنف قراراته.

ولا يكفي لاعتبار التعرض مستوفيا لشروطه القانونية، أداء الوجيبة القضائية، وإرفاقه بالمستندات المؤيدة، بل ينبغي أيضا ممارسته داخل الأجل القانوني المحدد في الفصل 24 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، وهو شهران من يوم نشر الإعلان عن انتهاء التحديد المؤقت في الجريدة الرسمية، على أنه يمكن حسب الفصل 29 من نفس الظهير قبول التعرض بعد انصرام هذا الأجل بصفة استثنائية[23]، من طرف المحافظ العقاري ما لم يوجه الملف إلى كتابة ضبط المحكمة الابتدائية، وكذا بعد توجيهه إذا اتخذ وكيل الملك قرارا بذلك[24].

وصلاحياتهما بهذا الصدد جد واسعة، حيث لم يلزمهما المشرع بتعليل قرارهما، ومع ذلك يمكن لمن تضرر من قرار المحافظ المتعلق بقبول أو رفض التعرض الخارج عن الأجل الطعن فيه أمام القضاء الإداري، باعتبار المحافظ سلطة إدارية، وهو ما كرسه قرار صادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)[25] جاء فيه :”…وحيث إنه إذا كان من حق المحافظ أن يقبل التعرض خارج الأجل المحدد قانونا بصورة استثنائية، فإن ذلك لا يحول بين القضاء الإداري ومراقبة مشروعية قراره عن طريق التأكد من توفر الظروف والشروط الاستثنائية التي تبرر هذا القبول، دون النظر في جوهر التعرض الذي يظل من اختصاص المحكمة العادية”.

وقد أثار الاستثناء الوارد في الفصل 29 من قانون سالف الذكر حفيظة البعض، إذ أن هناك من يرى أن سلطة المحافظ في رفض التعرض المقدم خارج الأجل أنها سلطة خطيرة، وأنه لا يوجد ما يمنع قبول هذا التعرض ما دام الرسم العقاري لم يؤسس بعد[26]، بينما هناك من يرى أنه على المشرع نقل الاختصاصات الموكولة للسيد وكيل الملك إلى رئيس المحكمة، لأن رئيس النيابة العامة له اختصاصات جنحية بعيدة كل البعد عن النظر في التعرضات[27].

وبعد استيفاء التعرض لشروطه القانونية السالفة الذكر، يحال على المحكمة المختصة، إلا أن التساؤل الذي يثار بهذا الصدد هو مدى سلطة القضاء العادي (المحكمة الابتدائية الكائن بها العقار) في مراقبة الاختلالات المسطرية التي جاءت بها المرحلة الإدارية؟ كما لو لم يؤد المتعرض الرسوم القضائية، أو قدم التعرض خارج الأجل؟.

بالرجوع إلى العديد من الأحكام القضائية[28]، يلاحظ أنها تبتدئ بالعبارة التالية: ” حيث إن التعرض على مطلب التحفيظ… قدم وفق الشروط الشكلية المطلوبة قانونا، تبعا لمقتضيات الفصل 24 و 29 من ظهير 12/8/1913 وأن جميع الإجراءات التي بوشرت كانت صحيحة، وبالتالي فالتعرض مقبول من الناحية الشكلية”.

هذه العبارة توحي بأن القضاء يقوم بمراقبة مدى احترام الإجراءات المسطرية خلال المرحلة الإدارية، غير أنه بالرجوع إلى بعض الاجتهادات القضائية يتضح أنه لا رقابة للقضاء للتصدي للعيوب الشكلية خلال المرحلة الإدارية، إذ جاء في قرار المحكمة الابتدائية بوجدة إذ جاء فيه :”حيث إن الدفع المتعلق بكون تعرض كل من (تم ذكر أسماء المتعرضين) جاء خارجا عن الأجل القانوني مردود كذلك، إذ أن قبول التعرض أو عدم قبوله حسب تقديمه داخل الأجل القانوني أو خارجه يدخل في اختصاص المحافظ”.كما جاء في قرار للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)[29]، أن المحكمة غير ملزمة بأن تشير في حكمها إلى أن التعرض على التحفيظ وقع داخل الأجل القانوني.

مما سبق يتضح أن الاجتهاد القضائي مستقر على أن القضاء لا سلطة له للتصدي للعيوب الشكلية، بينما اختلف الفقه بخصوص هذا الموضوع، ذلك أن الأستاذ محمد ناجي شعيب[30]، يرى أن سلطة القضاء للبت فقط في حدود التعرض رهين بمناقشة جوهر النزاع، أما حينما يتعلق الأمر بالجوانب المسطرية فإن القاضي له الصلاحية للبت فيها، بل ويثيرها من تلقاء نفسه، طالما أن المسائل المسطرية من النظام العام، لما في حماية المسطرة من حماية للحق نفسه، في حين يرى الاستاد عبد العلي بن محمد العبودي[31] أن سلطة القضاء لا تمتد إلى مراقبة الاختلالات المسطرية التي جاءت بها المرحلة الإدارية، إذ يقول بصدد حديثه عن الوجيبة القضائية :” إن الرسوم والواجبات القضائية المتعلقة بدعوى التحفيظ تؤدى مسبقا أمام المحافظة العقارية، ولا تطلب أمام كتابة الضبط بالمحاكم ولهذا فلا حاجة بالقاضي إلى أن يضيع الوقت في البحث عن مسألة الأداء أو عدمه لهذه الرسوم، خاصة وأن ذلك يدخل في الإجراءات الإدارية لفتح الملفات بالمحافظة العقارية، قبل إحالتها على القضاء”، وهو ما أكدته القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بوجدة[32]، إذ جاء فيه:” وحيث إنه على فرض أن التعرض ورد خارج الأجل جدلا، فإن سلطة القضاء لا تمتد إلى مراقبة شكليات التعرض من حيث أداء الرسوم القضائية عليه أو احترام آجال تقديمه، إذ أنه حيث وإن كان هناك إخلال شكلي في تقديمه فعلى القاضي تجاهله إذا قبل من طرف المحافظ الذي يملك وحده سلطة التصدي للعيوب الشكلية خلال المرحلة الإدارية للتحفيظ”.

في مقابل ذلك يرى بعض الفقه، أن عدم صلاحية المحكمة لمراقبة الجوانب الشكلية للتعرض، لها استثناءات تفرضها طبيعة مسطرة التحفيظ، ومن هذه الاستثناءات ما يتعلق بأداء الرسم القضائي، حيث من حق المحكمة مراقبة أداء المتعرض للوجيبة القضائية، لسببين أولهما بكون المحافظ ينوب فقط عن كتابة الضبط في استخلاص الرسوم القضائية، وثانيهما أن نزع هذا الاختصاص عن المحكمة، يلزم المحافظ بإلغاء التعرض من بعد الحكم قضائيا بصحته، وهو ما سيتعارض مع ما للحكم الصادر في نزاع التحفيظ من حجية[33]، ويهدر الوقت والمال على المتعرض الذي كلفه الحكم الصادر بصحة تعرضه، والذي سيكون المحافظ ملزما قانونا بإلغائه، بسبب عدم أداء الرسم القضائي عن التعرض استنادا إلى مقتضيات الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14.

غير أنني لا أوافق هذا الرأي، فالقول بأن صلاحية المحافظ إلغاء التعرض من بعد الحكم قضائيا بصحته، استنادا إلى عدم أداء الرسوم القضائية، لا يتناسق مع مقتضيات الفصل 32 من القانون السالف الذكر في فقرته الأولى، التي أعطت له إمكانية إلغاء التعرض قبل إحالة هذا الأخير على القضاء، وليس بعد ذلك، فالأخذ بالرأي الذي تبناه الفقه يجعلنا نقر بصلاحية المحافظ لتحفيظ العقار باسم طالب التحفيظ، على أساس أن المتعرض الذي حكم بصحة تعرضه، تم إلغاء تعرضه لعدم أدائه الرسوم القضائية، وهو أمر غير مستساغ، لذلك أعتقد أنه في حالة عدم أداء الرسوم القضائية، وهي حالة نادرة جدا على أساس أن المحافظ يتحرى جيدا أداءها قبل إحالة الملف على القضاء، فإن على المحكمة إرجاع الملف إلى المحافظ لاستيفاء هذه الشكلية، طالما أن المشرع لم يخول المحكمة صلاحية استخلاصها.

بينما يرى أحد الباحثين[34]، أن الرقابة القضائية يجب أن تنصب على الناحية الشكلية، إذ على القضاء التأكد من كون المحافظ قد أنذر المتعرض بأداء الوجيبة القضائية، وأنه لم يستجب للإنذار، وبخصوص الرقابة القضائية على قرار المحافظ بشأن التعرض الخارج عن الأجل، فإن الرقابة تمتد إلى الإجراءات المسطرية كضرورة التقيد بنشر ملخص مطلب التحفيظ بالجريدة الرسمية واحترام الأجل القانوني، ولا تتعداه إلى مراقبة المبررات المعتمدة من طرف المحافظ.

والرأي فيما أعتقد أن سلطة القضاء ينبغي ألا تمتد إلى الاختلالات المسطرية التي جاءت بها المرحلة الإدارية، بدليل أن المشرع حصر سلطة القضاء في البت في وجود الحق المدعى به من قبل المتعرضين، ونوعه ومحتواه، ومداه، وحتى على فرض أنه أعطاه هذه الإمكانية، فإن الرقابة ستكون غير ذات جدوى، طالما أن المشرع لم يلزم المحافظ بتعليل قراره فيما يخص قبول التعرض الاستثنائي، ولا فيما يخص قراره بتخفيض الوجيبة القضائية، كما أن منح هذه الإمكانية للقضاء سيؤدي لا محالة إلى إطالة أمد النزاع، والكل يعلم أن قضايا التحفيظ العقاري من القضايا التي لا تحسم بسرعة، وبالتالي سينضاف بطء آخر إلى هذا البطء.

هذا عن بعض خصوصيات قضايا التحفيظ على مستوى تقييد الدعوى، فماذا عن مدى إلزامية تنصيب محام في مثل هذه القضايا؟.

الفقرة الثانية: تنصيب محامي في دعوى التحفيظ

نصت المادة الأولى من القانون الجديد رقم 08-28 المنظم لمهنة المحاماة  أن:” المحاماة مهنة حرة، مستقلة، تساعد القضاء، وتساهم في تحقيق العدالة، والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء[35].ذلك أن جهاز القضاء مهما توفر لديه من وسائل مادية وبشرية، فإنه لا يستطيع أن ينهض وحده بأعباء العدالة، بل لا بد له من مساعدين يشاطرونه تحمل هذه المسؤولية، ومن بين هؤلاء المساعدين نجد المحامي، الذي يقوم بدور مزدوج، فهو من جهة يقوم بالدفاع عن موكله، ومن جهة أخرى يقوم بمساعدة القضاء لأجل الوصول إلى الحقيقة[36].

ونظرا للدور الذي يقوم به المحامي في أي نزاع، لذلك فقد وسع من الحالات التي تستدعي المؤازرة بواسطة محام وجوبا[37]، والذي نص على مدى إلزامية تنصيب المحامي كلما كانت المسطرة كتابية[38]، غير أن الذي يهمني بهذا الخصوص هو مدى إلزامية تعيين المحامي في قضايا التحفيظ العقاري.

باعتبار هذا الموضوع تتجاذبه المقتضيات الواردة في ظ.ت.ع وكذا المقتضيات الواردة في قانون المحاماة، وبالتالي يطرح التساؤل عن المقتضيات الأولى بالتطبيق، ذلك انه بالرجوع إلى ظهير التحفيظ العقاري هناك بعض النصوص التي يستفاد منها أن تنصيب المحامي ليس إلزاميا في قضايا التحفيظ إذ جاء في الفصل35من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14على أنه:” عندما يرى القاضي المقرر أن القضية قد أصبحت جاهزة يخبر الأطراف بيوم الجلسة العلنية التي ستعرض فيها، وذلك قبل موعدها بثمانية أيام على الأقل، بعد التوصل بالاستدعاء”.

كما جاء في الفصل37 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14على أنه:” عند افتتاح المناقشات يعرض المقرر القضية ويعين المسائل التي تتطلب حلا دون أن يبدي أي رأي ثم يقع الاستماع إلى الأطراف…”.كما جاء في الفصل 42 من ظ.ت.ع على أنه:”بمجرد توصل كتابة الضبط لمحكمة الاستئناف بالملف، يعين الرئيس الأول مستشارا مقررا ويأمر هذا الأخير المستأنف بالإدلاء بأسباب استئنافه ووسائل دفاعه في ظرف أجل لا يتعدى خمسة عشر يوما يضاف إليها أجل بعد المسافة ثم يستدعي الأطراف المعنية بالأمر للاطلاع على ما أدلى به المستأنف وللإدلاء بمنازعاتهم ووسائل دفاعهم في أجل آخر مماثل”[39].

أما إذا رجعنا إلى قانون المحاماة وأساسا من خلال التطور التشريعي الذي عرفه، نجد أن قضايا التحفيظ العقاري كانت مستثناة – بنص صريح- من الخضوع لإلزامية تنصيب المحامي أمام المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف بمقتضى الفقرة الرابعة من المادة 66 من ظهير 18 فبراير 1950، حيث جاء فيها:”أما العرائض والمذكرات الدفاعية وبوجه عام جميع المستنتجات الختامية في مختلف القضايا ما عدا القضايا الجنائية وقضايا التحفيظ العقاري المرفوعة لدى المحاكم الابتدائية وأمام محكمة الاستئناف فيقدمها وجوبا المحامي المقبول وحده لإجراء المسطرة الكتابية…”[40].

 إلا أنه مع صدور قانون المحاماة عدد 79/19، بتاريخ 5 يونيو 1979 وأساسا من خلال الفقرة الأولى من المادة 34، احتدم الإشكال القانوني على أساس أن هذه الفقرة استثنت فقط القضايا الجنائية دون القضايا العقارية، التي أصبحت خاضعة لمبدأ إلزامية تنصيب المحامي، وبدوره ظهير 10 سبتمبر 1993، لم يستثنها من خلال الفقرة الأولى من المادة 31 منه، وهو ما سارت على نهجه أيضا المادة 32 من الظهير الشريف الصادر في أكتوبر2008 بتنفيذ القانون رقم 08-28 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، إذ جاء فيها:”المحامون المقيدون بجدول هيأت المحامين بالمملكة هم وحدهم المؤهلون في نطاق تمثيل الأطراف ومؤازرتهم لتقديم المقالات والمستنتجات والمذكرات الدفاعية في جميع القضايا، باستثناء القضايا الجنائية، وقضايا النفقة أمام المحاكم الابتدائية الاستئنافية والقضايا التي تختص المحاكم الابتدائية بالنظر فيها ابتدائيا وانتهائيا…”.

وقد أدى هذا التعارض بين مقتضيات ظ.ت.ع وقانون المحاماة إلى تضارب القضاء والفقه بخصوص مدى إلزامية تنصيب المحامي في قضايا التحفيظ فعلى مستوى القضاء، هناك قرار للمجلسالأعلى (محكمة النقض حاليا) قضى بما يلى:”…حيث يستفاد من الاطلاع على محتويات الملف والقرار المطعون فيه أن الحكم الابتدائي الصادر عن ابتدائية أكادير بتاريخ 14/4/1976 ملف عدد 181 والقاضي بعدم صحة تعرضه على مطلب التحفيظ عدد 4954، فقضت محكمة الاستئناف بعدم قبول الاستئناف بعلة أن المستأنف تابع المسطرة الكتابية بنفسه دون أن يحصل على رخصة الترافع طبقا للفصل 34 من قانون المحاماة الصادر بتاريخ 8/11/1979.[41]

حيث إنه بمقتضى الفصل 42 من ظهير 12 غشت 1913 فإنه بمجرد توصل كتابة الضبط بمحكمة الاستئناف بالملف يعين الرئيس الأول مستشارا مقررا ويأمر هذا الأخير المستأنف بالإدلاء بأسباب استئنافه ووسائل دفاعه…فإن القرار المطعون فيه عندما قضى بعدم قبول الاستئناف بعلة أن المستأنف لم يقم بالإجراءات المنصوص عليها في الفصل 34 من قانون المحاماة مع أن القضية تتعلق بالتحفيظ وإن الفصل المذكور لا يلزم المستأنف بتنصيب مدافع عنه أو طلب الترخيص بالمرافعة شخصيا، وإن المحكمة عندما بتت على النحو المذكور تكون قد خرقت الفصل المشار إليه أعلاه وعرضت قراره للنقض”[42].

وفي مقابل هذا التوجه، هناك بعض الأحكام التي قضت بإلزامية تنصيب المحامي في قضايا التحفيظ، إذ جاء في حكم المحكمة الابتدائية بالناظور “…وبناء على إحالة ملف المحافظة على هذه المحكمة بتاريخ 20-9-2000، وبناء على إشعار المتعرضين قصد الإدلاء بمذكرة ببيان أسباب تعرضهم بواسطة محام…”[43].

ونفس المحكمة قضت بأنه لا مجال للاستغناء عن تنصيب المحامي في قضايا التحفيظ، إذ أن محامي قدم تعرضه بواسطة محام آخر يؤازره في ذلك[44].

ولم يكن التضارب بخصوص هذا الموضوع على مستوى القضاء فحسب، بل أيضا على مستوى الفقه الذي انقسم إلى اتجاهين، اتجاه[45] يرى إلزامية تنصيب المحامي في قضايا التحفيظ على أساس أن مقتضيات المادة31 من قانون المحاماة تراجعت عن استثناء قضايا التحفيظ العقاري من الخضوع لمبدأ تنصيب محام أمام القضاء، خاصة وأن هذه المادة لم تسمح بإعمال مقتضيات خاصة عند التعارض كأن تنص صراحة على العبارة الآتية: “ما لم تنص مقتضيات قانونية خاصة بخلاف ذلك”، إضافة إلى ذلك فإن مقتضيات الفصول 35 و 37 و 42 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، لم تنص صراحة على عدم خضوع قضايا التحفيظ العقاري لمبدأ تعيين محام أمام القضاء، كما أن هذه الفصول تعتبر مقتضيات قانونية إجرائية خاصة بقضايا التحفيظ العقاري، وأن المادة 31 من قانون المحاماة تعتبر مقتضيات قانونية إجرائية خاصة بمبدأ تنصيب محام أمام القضاء، وبالتالي تعد أخص من مقتضيات قانون التحفيظ العقاري، والأهم من ذلك حسب هذا الاتجاه أن إخضاع قضايا التحفيظ لمبدأ وجوب تعيين محام يحقق مصلحة المتقاضين والعدالة.

بينما يرى الاتجاه الثاني[46] -وأشاطره الرأي- أن مقتضيات ظهير التحفيظ العقاري أولى بالتطبيق باعتبارها خاصة، وهي لا تلزم تعيين المحامي في مثل هذه القضايا، وهذا لا يحتاج إلى وجود نص صريح ينص على تطبيق المقتضيات الخاصة عند التعارض، كما ذهب إلى ذلك الاتجاه الأول، لأنه من المسلم به قضاء وفقها أن النص الخاص أسبق في التطبيق من النص العام وأن هذه القاعدة تشمل قواعد الموضوع والإجراءات على حد السواء.

وعموما إن عدم تنصيص ظهير التحفيظ العقاري على إلزامية تنصيب محام في قضايا التحفيظ، لا يخدم العدالة لأنه يضر بحقوق المتقاضين الذين يجهلون تعقيدات مسطرة التحفيظ، ذلك أن العديد من الحقوق قد تضيع بسبب عدم وجود محام، لأن العلم بأصول التقاضي ليس أمرا متاحا للجميع، بل إن طبيعة قضايا التحفيظ تقتضي الاستعانة بمتخصصين لمباشرتها، كما أن عدم تنصيب محام في دعوى التحفيظ العقاري لا يستسيغه المنطق، إذ كيف يعقل القول بإلزامية تنصيبه في العقار غير محفظ والقول بغير ذلك في العقار في طور التحفيظ.

ومع ذلك أعتقد أن هذا التوجه الأخير كان أقرب للصواب، على أساس أن مقتضيات قانون المحاماة، قد لا يستقيم مع خصوصيات نزاعات التحفيظ،[47]بإضافة إلى أن نصوص من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، التي سبقت الإشارة إليها في هذا الصدد لا تلزم بضرورة تعيين محام، فإن الفصل 37 من – قانون السالف الذكر-حدد الإطار الذي يمارس فيه القضاء اختصاصه، ألا وهو البت في التعرض من الناحية الموضوعية دون الشكلية، كما أنه ما من جدوى لتصريح بإلزامية المحامي، إذا لم يكن بإمكان القضاء الحكم بعدم قبول الدعوى، في حالة الإخلال بهذا المقتضى، كما هو الشأن في القضايا العادية، ذلك أن المحكمة الابتدائية ببني ملال [48] بتت في نزاع التحفيظ من حيث الموضوع على الرغم من عدم استجابة المتعرض لإنذارها بتنصيب محام أو الإدلاء بالإذن بالترافع.

يبقى هذا النقاش نظريا أكثر منه عمليا، بحيث إنه من النادر إيجاد قضية تتعلق بالتحفيظ العقاري يترافع فيها الأطراف دون مساندة المحامي، نظرا لقيمة العقار من جهة، وعدم إلمام المترافعين بالإجراءات من جهة أخرى.

المطلب الثاني: التدخل أمام قضاء التحفيظ العقاري

لقد أقر المشرع بمجموعة من القواعد تحمي كل من له مصلحة في النزاع المعروض على القضاء، حيث مكنه من التدخل كطرف فيه، وذلك إما للمطالبة بحقوقه، أو لمؤازرة احد أطراف النزاع، كما يمكن لأحدهما أو للمحكمة المطالبة بإدخال الغير لتدعيم ادعاءاته.

ويقصد بالتدخل، تقدم شخص ثالث لم يكن لا مدعيا ولا مدعى عليه بمقال ليصبح طرفا في الدعوى لما له من مصلحة في النزاع المعروض على القضاء، أما الإدخال فهو طلب شخص إجبار شخص ثالث على الانضمام إلى الدعوى، ويتم بمقال يقدمه أحد الطرفين أو بأمر توجهه المحكمة إلى هذا الشخص.

بحيثأن وضع المحكمة يدها على النزاع المعروض عليها، يقتضي قبل ذلك الوقوف على مدى صلاحيتها للبت في الدعوى المعروضة عليها، فاختصاص المحكمة عموما ومحكمة التحفيظ على الخصوص ينتج على تقسيم ولاية القضاء بشكل عام، إذ تختص كل محكمة بنصيب معين من ولاية القضاء.

وباختصاص المحكمة في النزاع المعروض عليها فإنها تكون ملزمة بما يحال عليها من طرف المحافظ دون السماح لأي تدخل جديد في الدعوى، ما لم يكن مما يسمح به القانون.

وللتفصيل أكثر في ذلك، سأقسم هذا المطلب إلى فقرتين، أتطرق في (الفقرة الأولى) التدخل لتصحيح المسطرة أمام قضاء التحفيظ، على أن أتناول في (الفقرة الثانية) التدخل للدفاع والمؤازرة.

الفقرة الأولى: التدخل لتصحيح المسطرة أمام قضاء التحفيظ

سبق الإشارة إلى أنه في قضايا التحفيظ العقاري، لا وجود لمقال افتتاحي، ولذلك فإن القضاء يبقى مقيدا بالشكل الذي أحيل به الملف من طرف المحافظ سواء فيما يتعلق بالمستندات المؤيدة للتعرض وكذا نطاق الدعوى وأطرافها[49].

إلا أنه إذا كانت المحكمة ملزمة بالتقيد بأطراف النزاع المحددين أمام المحافظة العقارية، فإن التساؤل المطروح هو هل يمكن تصحيح المسطرة في حالة وقوع تغيير في أهلية أطراف النزاع أو أحدهم، سواء بنقصان الأهلية أو انعدامها بسبب الوفاة مثلا؟ .

وبتعبير آخر هل يمكن تطبيق قواعد م.م المنظمة للتدخل في قضايا التحفيظ العقاري في ظل سكوت ظ.ت.ع عن تنظيمها؟ استنادا إلىكون قانون م.م يعد شريعة عامة، يحكم جميع القضايا التي لم ينظمها نص خاص، وقد تناول بالتنظيم هذه المسألة إذ نص في فصله 115 على أن المحكمة بمجرد علمها بوفاة أحد الأطراف أو تغيير وضعيته بالنسبة للأهلية، تقوم باستدعاء من لهم الصفة في مواصلة الدعوى، إذا لم تكن جاهزة، طبقا لمقتضيات الفصول 37- 38- 39 من قانون المسطرة المدنية.

إن الإجابة عن هذا التساؤل كانت محل أخذ ورد على مستوى الاجتهاد القضائي، إذ أنه في البداية، كان يتم إرجاع الملف إلى المحافظ العقاري ليتدارك هذا الوضع، مما كان يطيل أمد النزاع[50]، الأمر الذي جعل القضاء ينحو منحى آخر بأن أقر استمرار القضاء في مواصلة الدعوى، مع رفض طلب الورثة بالتدخل لتصحيح المسطرة، إذ جاء في قرار للمجلس الأعلى(محكمة النقض)[51]: الفصل 117 من قانون المسطرة المدنية المتعلق بإدخال ورثة احد أطراف الدعوى لا يطبق أمام محكمة التحفيظ التي يتعين عليها أن تبت في القضية المحالة عليها من طرف المحافظ”.

وعلى مستوى محاكم الموضوع، يوجد حكم لابتدائية عرائش[52] جاء فيه:”حيث إن مسطرة التحفيظ لا تخضع لمقتضيات قانون المسطرة المدنية ما عدا في الأحوال المنصوص عليها صراحة، وأن محكمة التحفيظ تختص في النزاع الذي يثيره المتعرضون ضد طالب التحفيظ… وأنه إذا توفي طالب التحفيظ تستمر المحكمة في الإجراءات لتصدر حكمها بصحة التعرض أو عدم صحته”، وهو ما جسده أيضا القراران الصادران عن كل من محكمة الاستئناف بالناظور[53] وكذا محكمة الاستئناف بفاس[54].

كما أن طالب التحفيظ أو المتعرض غير مجبر على إدخال ورثة أحد المتعرضين أو الطالبين بعد إحالة الملف على المحكمة، لأن المحافظ سيقوم بالإجراءات اللازمة لتصحيح الوضعية الناشئة عن وفاة أحد أطراف الدعوى، وهو ما جاء به القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالناظور الذي قضى بما يلي:”حيث إنه وعلى فرض وفاة طالبي التحفيظ… فإن عدم إدخال ورثتهم من طرف المتعرض لا يجعل الحكم باطلا…”[55].

غير أن هذا التوجه الذي سار عليه القضاء المغربي، قد أثار حفيظة جل المتدخلين، باعتبار هذا التوجه يشكل خرقا حقيقيا للفصل الأول من قانون المسطرة المدنية والذي ينص على أنه:”لا يصح التقاضي إلا ممن له الصفة والأهلية والمصلحة لإثبات حقوقه”.

وبذلك فالأهلية تنعدم بالوفاة، وكل إجراء بعد الوفاة باسم المتوفي يعد باطلا بقوة القانون، لأن الأهلية من النظام العام، بدليل أن المشرع أعطى للمحكمة الحق في إثارة انعدامها تلقائيا (الفصل الأول – الفقرة الثانية من قانون المسطرة المدنية)، كما أنه لا يعقل أن تستمر المحكمة في نظر نزاع طرفه ميت لأن الميت لا يمكنه أن يوجه استدعاءً، أو يكلف بإحضار حجج.

لهذا لا ينبغي استبعاد مقتضيات الفصل 115 من قانون  المسطرة المدنية، بحجة عدم وجود نص في ظهير التحفيظ، على اعتبار أن بعض القواعد العامة المقررة في قانون المسطرة المدنية تسري على كافة الدعاوى بدون حاجة للإحالة عليها، خاصة وأن تطبيق هذا النص سيؤدي إلى تجاوز الكثير من الصعوبات، ويقصر أمد الخصومة.

وقد تنبه القضاء أن تطبيق مقتضيات قانون المسطرة المدنية سيؤدي إلى تجاوز هذه الوضعية غير المنطقية، فبدأ يقبل إدخال الورثة في الدعوى، إذ جاء في قرار للمجلس الأعلى:”بمقتضى الفصل الأول من قانون المسطرة المدنية، يتعين على المحكمة أن تنذر الطرف بتصحيح المسطرة داخل أجل تحدده له، وحيث إن المحكمة ردت استئناف الورثة الذين لم يدلوا برسم الإراث دون أن تنذرهم بذلك تكون قد خرقت الفصل المذكور، وعرضت قرارها للنقض[56].

 وهو ما سارت عليه أيضا بعض محاكم الموضوع، إلا أن هذا التوجه الإيجابي الذي بدأت تسير فيه بعض الأحكام القضائية، لم يتم تكريسه على مستوى قانون التحفيظ العقاري، بل للأسف إن هذا الأخير عمق الإشكالية أكثر، ذلك أن ظهير التحفيظ العقاري وإن لم يحل هذه الوضعية بشكل صريح، فإنه على الأقل التزم الصمت، فكان بإمكان القضاء تطبيق مقتضيات المسطرة المدنية لسد هذه الثغرة، طالما لا وجود لنص صريح في ظهير التحفيظ يستبعدها، وذلك بخلاف المشروع الذي جاء بنص صريح ضرب فيه عرض الحائط التوجه الإيجابي للقضاء المغربي في محاولته لإيجاد حل لهذه الوضعية.

الفقرة الثانية : التدخل للدفاع والمؤازرة

يقصد بالتدخل تقدم شخص لم يكن لا مدعيا ولا مدعى عليه بمقال للمحكمة ليصبح طرفا في الدعوى، لما له من مصلحة في النزاع، والتدخل نوعان تدخل انضمامي يقتصر فيه المتدخل على الانضمام إلى أحد الأطراف لمؤازرته، وتدخل هجومي عبارة عن دعوى جديدة سمح المشرع بتقديمها في صورة طلب عارض، أما الإدخال، فهو طلب إجبار شخص ثالث على الانضمام إلى الدعوى، ويكون ذلك بطلب من الخصوم، أو بناء على أمر من المحكمة[57].

وقد نظم قانون المسطرة المدنية التدخل في الفصل 111 منه، حيث أعطى لكل من له مصلحة في النزاع المطروح، إمكانية التدخل في الدعوى، أما التدخل في المرحلة الاستئنافية فقد حصره المشرع فيمن لهم الحق في استعمال تعرض الخارج عن الخصومة، وذلك بمقتضى الفصل 144 من قانون المسطرة المدنية أما بخصوص مرحلة النقض فالتدخل لا يكون إلا انضمامي حسب الفصل 377 من قانون المسطرة المدنية.

غير أن التساؤل يثار بخصوص طلبات التدخل في الدعوى المتعلقة بقضايا التحفيظ العقاري هل هي مقبولة أم لا؟ وأساسا التدخل أمام المحكمة الابتدائية، باعتبار ظهير التحفيظ العقاري قد أحال في الفصل 47 على ظهير 27 شتنبر 1957 المتعلق بمحكمة النقض، وبالتالي يمكن تطبيق الفصل 377 من قانون المسطرة المدنية.

 نفس الشيء بالنسبة للتدخل أمام محكمة الاستئناف، حيث أحال الفصل 43 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 على الفصل 234 من قانون المسطرة المدنية القديم (يقابله الفصل 144 من قانون المسطرة المدنية الجديد) والذي يجيز التدخل في المرحلة الاستئنافية لكل من لهم الحق في ممارسة تعرض الخارج عن الخصومة، ورغم الإحالة فإن هذا النص (الفصل 43 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14) سيبقى معطلا لكون تعرض الخارج عن الخصومة غير مقبول في قضايا التحفيظ العقاري، إذ جاء في قرار للمجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا):”حيث صح ما عابته الوسيلة على القرار المطعون فيه، ذلك أنه لا وجود لنص قانوني في مقتضيات ظهير 12 غشت 1913 يسمح بالتعرض الخارج عن الخصومة، والقرار المطعون فيه لما قبل طلب المطلوبة في النقض المذكورة رغم ما ذكر يكون قد خرق الظهير المشار إليه أعلاه، فتعرض بذلك للنقض”[58].

إلا أن هناك من يعتبر مثل هذا التفسير مموها لأنه سيجعل مقتضيات الفصل 43 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، لا طائل منها ومعلوم أن المشرع منزه عن العبث.

وكما سبق القول فإنه سيتم التركيز على إمكانية التدخل في الدعوى أمام المحكمة الابتدائية -بالاستناد على مقتضيات قانون المسطرة المدنية- طالما أن ظهير التحفيظ العقاري قد التزم الصمت، هذه المسألة التي عرفت تضاربا على مستوى الاجتهاد القضائي وكذا الفقهي.

فعلى مستوى القضاء هناك بعض القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى(محكمة النقض حاليا)[59] لم يقبل فيها التدخل أمام قضاء التحفيظ، على أساس أن، المحكمة مرتبطة بما يحال عليها من طرف المحافظ، وأن أطراف الدعوى تتحدد أمام المحافظة العقارية فيتضح المدعي من المدعى عليه، إلا أنه في قرارات أخرى ميز بين نوعي التدخل، إذ أصبح يقبل التدخل إذا كان انضمامي، ولا يقبله إذا كان هجوميا.

 إذ جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالرباط[60]:”التدخل الإرادي لا يمكن التصريح بقبوله إلا إذا كان موضوعه هو تعزيز مزاعم أحد أطراف النزاع، أما إذا كان يهدف إلى الحصول على حق ما لطرف أجنبي عن النزاع، فإنه يكون غير مقبول”.

كما جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالناظور:”وحيث إنه فيما يتعلق بالتدخل الإرادي المقدم من قبل… فإنه يرمي إلى نفس غاية طالب التحفيظ، فهو تدخل انضمامي يتبع الدعوى الجارية لفائدة الطرف المذكور…ومعلوم انه إذا كان قانون التحفيظ لم يتعرض لمسطرة التدخل، فإن مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 43 منه –المتعلق بالمسطرة أمام محكمة الاستئناف- قد أحالت بشأن التدخل على الفصل 234 من المرسوم الملكي المتعلق بالمسطرة المدنية القديمة وهذا الفصل تقابله المادة 144 من ق.م.م الحالي الذي يجيز التدخل ممن يحق له استعمال التعرض الخارج عن الخصومة.

وحيث إنه فوق ذلك فإن المتدخل لا يهدف إلى ممارسة حقوق خاصة به متميزة عن حقوق المتعرضين أو طالبي التحفيظ…..

وحيث يتضح من موقف المتدخل أنه يكتسي طابعا تحفظيا ودفاعيا يرمي إلى الاطلاع على الملف ومراقبة سير الدعوى لدعم وتعزيز الطرف الذي يشترك معه في المصالح نظرا لأنه اشترى منه العقار محل المطلب بموجب الشراء عدد…..

وحيث إن التدخل ورد على الشكل المطلوب وقد أديت عنه الرسوم القضائية فهو مقبول شكلا”[61].

أما على مستوى الفقه، فقد عرف موضوع التدخل أمام المحكمة الابتدائية في قضايا التحفيظ خلافا فقهيا، إذ أن الأستاذ إبراهيم بحماني يرى أن:”متابعة الدعوى لا يقبل في مسطرة التحفيظ لأنها لا تنص على ذلك، فلو توفي طالب التحفيظ وكان شخص قد اشترى منه العقار في حياته أو جزءا منه، ووضع رسم شرائه بالمحافظة، فإنه لا يمكنه التدخل في الدعوى أمام المحكمة ليطالب بما اشتراه، وإنما يتعين عليه التعرض… أما بالنسبة للورثة فيعتبرون امتدادا للموروث فهم خلف عام لا يحتاجون إلى التدخل وإنما عليهم الإدلاء بالإراثه لإثبات صفتهم، ومتابعة الدعوى باعتبارهم ورثة طالب التحفيظ أو المتعرض”[62].

بينما ميز البعض بين التدخل الانضمامي الذي لا يهدف من ورائه المتدخل سوى دعم مركز أحد طرفي النزاع أو تسهيل الفصل في الدعوى، أو جعل الحكم ساريا على المطلوب إدخاله، حيث يكون التدخل مقبولا،أما التدخل الهجومي الذي يهدف من ورائه المتدخل الحكم له بطلباته فهو غير مقبول باعتباره تعرضا جديدا واردا بعد انقضاء الأجل، وما يقال عن التدخل يقال أيضا عنالإدخال، إذ لا مانع من قبول إدخال الغير في الدعوى إذا اكتفى الطالب بدعوى الغير فقط لتدعيمه ومساندته في النزاع[63].

وإذا كان هذا الرأي الأخير يميز بين نوعي التدخل، فإن هناك رأي آخر يقبل التدخل على إطلاقه، إذ يرى أنه بالرغم من أن الفصل 43 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 قد نظم التدخل فقط أمام محكمة الاستئناف، فإنه لا معنى لعدم قبوله أمام المحكمة الابتدائية، خاصة في غياب قانون مسطري خاص بمادة التحفيظ، كما أن طلبات التدخل تطرح أمام المحكمة الابتدائية أكثر منها أمام محكمة الاستئناف.

 كما يمثل هذا الرأي،[64] الذي يرى أنه يتعين تفسير سكوت ظهير التحفيظ العقاري عن تنظيم إمكانية التدخل بأنه يفيد الجواز والإباحة لا المنع والتحريم، إذ يعتبر أن التعرض خارج الأجل والمقبول من طرف المحافظ وفقا للفصل 29 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، بمثابة تدخل في الدعوى أمام المحكمة الابتدائية، إلا أنه إذا كان كل ادعاء على عقار في طور التحفيظ، يجب أن يقدم في شكل تعرض، فإن المتعرض المتدخل، يتخذ بدوره هذه الصفة خلافا لقواعد التدخل أمام القضاء العادي، كما أن منح التعرض الاستثنائي في إطار الفصل 29 سالف الذكر لا يقبل دائما.

وأنا أيضا أساند هذا الاتجاه الأخير لأن إمكانية التدخل تشكل ضمانة مهمة للمتقاضين، حتى لا يتم إهدار حقوقهم، وكمثال على ذلك، الحالة التي يشتري فيها شخص ما العقار موضوع مطلب التحفيظ من المتعرض أو من طالب التحفيظ، مباشرة بعد إحالة الملف إلى المحكمة.

 فإنه من الأجدر السماح له بالتدخل للدفاع عن حقوقه بنفسه، لأن الشخص أحرص الناس في الدفاع عن مصالحه، إضافة إلى ذلك فإن إمكانية التدخل لا تتعارض مع المنطق القانوني بدليل أن الفصل الثالث منقانون م.م،[65]نص على أن تطبق مقتضيات هذا القانون حتى في القضايا التي تنظمها نصوص تشريعية أو تنظيمية خاصة، إذا لم يرد في هذه القوانين نص صريح خاص بها.

                المبحث الثاني: ضوابط التحقيق في الدعوى والحكم فيها

يعتبر ميدان التحفيظ العقاري مجالا خصبا للمنازعات القضائية، نظرا لما تحدثه قرارات المحافظ من تأثير مباشر على حقوق الأطراف المتضررة، وذلك بسبب سلطاته التقريرية الواسعة وسلطته التقديرية التي لا حدود لها.

وإذا كان منشأ القضاء هو حماية الحقوق والمراكز القانونية، فإنه وأمام تعدد المساطر المعتمدة في مجال التحفيظ، يصبح دور القضاء أكثر تعقيدا، وتصبح مسؤولية المحافظ أكثر جسامة.

وبعد صدور الحكم تطرح مسألة إمكانية تطبيق مقتضيات الفصول 50 و345 و 375 من ق. م . م، المتعلقة على التوالي بالبيانات الإلزامية لتحرير الأحكام الابتدائية، والقرارات الاستئنافية وقرارات محكمة النقض[66] الصادرة في القضايا العادية، وذلك في نزاع التحفيظ، طالما لا وجود لنصوص مماثلة في ظهيرالتحفيظ العقاري، كما تطرح مسألة تبليغ الأحكام باعتباره إجراء جوهريا من إجراءات الدعوى، يلازمها من بدايتها إلى نهايتها، بهدف تمكين الأطراف من الإحاطة بمختلف مراحلها وإجراءاتها حتى تحقق العدالة العقارية وتصان حقوق الدفاع، حيث خصه الفصل 40 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، بخصوصية تتمثل في كون الحكم يبلغ بملخصه فقط، ويبلغ وفق الكيفية المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية، رغم أن الفصل 47 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، أحال بدوره بخصوص كيفية التبليغ على قانون المسطرة المدنية، غير أن هذه الإحالة تطرح مسألة انسجام بعض طرق التبليغ المنصوص عليها في قانون السالف الذكر مع خصوصيات دعوى التعرض على مطلب التحفيظ، وأساس التبليغ بالطريقة الدبلوماسية وكذا التبليغ عن طريق القيم.

حين إحالتهالملف إلى كتابة ضبط المحكمة الابتدائية، التي يوجد بدائرتها العقار، يعمد رئيس هذه المحكمة إلى تعيين قاض مقرر، يكلف بتحضير حل للنزاعات المثارة بسبب طلب التحفيظ، ونظرا للدور الذي يقوم به القاضي المقرر في ميدان التحفيظ العقاري، فقد خوله ظهير التحفيظ العقاري صلاحيات واسعة[67]، حتى يكون تقريره بمثابة صورة حقيقية للنزاع المعروض، كما خصه بمجموعة من المقتضيات التي تختلف أحيانا عن المقتضيات التي جاء بها قانون المسطرة المدنية، الأمر الذي يستدعي الوقوف على إمكانية تطبيق مقتضيات هذا الأخير، وأساسا من خلال ما طبع التوجه القضائي بهذا الخصوص.

وبمجرد أن تصبح القضية جاهزة، يقوم القاضي المقرر بتعيين اليوم، الذي ستعقد فيه جلسة الحكم، ويبلغ الأطراف بيوم الجلسة العلنية قبل موعدها بثمانية أيام على الأقل، مع إضافة أجل المسافة[68]، وعند افتتاح المناقشات يعرض المقرر القضية ويعين المسائل التي تتطلب حلا، دون أن يبدي رأيه، ثم يقع الاستماع إلى الأطراف، ويقدم ممثل النيابة العامة إن اقتضى الحال استنتاجاته ثم يفصل في القضية[69]، لتأتي المرحلة النهائية، وهي إصدار الحكم وتبليغه، وما طبعها من أوجه اختلاف وتشابه بين قواعد المسطرة المدنية وظهير التحفيظ العقاري.

وللوقوف على ضوابط التحقيق في الدعوى والحكم فيها، سنتطرق إلى دور القاضي المقرر والنيابة العامة في نزاعات التحفيظ (المطلب الأول)، تم إلى أهم المبادئ التي يعتمدها القضاء في إصدار الأحكام في قضايا التحفيظ العقاري (المطلب الثاني).

المطلب الأول: دور القاضي المقرر والنيابة العامة في نزاعات التحفيظ

ذلك أن تقييد دعوى التعرض على مطلب التحفيظ، لا ينطلق بمقال افتتاحي كما هو الشأن بالنسبة للدعوى العادية .

بل يحال الملف من طرف المحافظ على الأملاك العقارية، إلى المحكمة الابتدائية الكائن بها العقار، لذا فإن تحديد الطلب يكون أمام المحافظ العقاري،وبمجرد إحالة على القضاء، يعمد رئيس المحكمة الابتدائية الكائن بها العقار فورا إلى تعيين قاض مقرر يكلف بتحضير القضية للحكم، واتخاذ جميع الإجراءات المناسبة لهذه الغاية، غير أنه إذا كان ظهير التحفيظ العقاري قد خول القاضي المقرر صلاحيات مهمة[70]، للقيام بإجراءات التحقيق العادية – على غرار نظيره في القضايا العادية- فإنه لم يحظ بنفس الصلاحيات على مستوى إجراءات التحقيق المسطرية، حيث له فقط حق تبليغ الأطراف بيوم الجلسة العلنية إذا أصبحت القضية جاهزة، دون إلزاميته بإصدار أمر بالتخلي، وعند افتتاح  المناقشات يعرض المقرر القضية ويعين المسائل التي تتطلب حلا دون أن يبدي أي رأى، مما يعني أن دوره ينتهي بمجرد عرض القضية، مما يؤثر سلبا على النزاع، لأن القاضي الذي سيبث في القضية، قد لا تتوفر لديه العناصر الكافية للإحاطة بجميع جوانبه، لأنه لم يعايش موضوع النزاع من جانبه الواقعي كما عاينه القاضي المقرر، خاصة وأن من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 لم يلزمه بإعداد تقرير ولا تلاوته بالجلسة[71].

أما على مستوى تدخل ممثل النيابة العامة إن اقتضي الحال بمستنتجاته،وذلك من خلال مقتضيات الفصل 37 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، إلى أن قانون المسطرة المدنية، نظم التدخل الوجوبيولانضمامي للنيابة العامة في القضايا المدنية من خلال الفصول من 6 إلى 10 من سالف الذكر، وبالرجوع إلى ظهير التحفيظ العقاري لا وجود لمقتضيات مماثلة، مما يقتضي الوقوف على إمكانية تطبيق مقتضيات ق. م. م بهذا الخصوص في نزاع التحفيظ.

تراعى في مسطرة التقاضي في مجال التحفيظ العقاري مجموعة من المساطر والشكليات، والتي لم تقتصر على قواعد التي يتم اعتمادها للبت في النزاع القائم بشان التعرض، بل تجاوزت ذلك لتمتد إلى المقتضيات والإجراءات التي يتم اتخاذها للبحث والتقصي عن مختلف الوسائل الضرورية لإعمالها، فقد عمل المشرع من خلال تجسيد الدور الفاعل لكى الجهازين القاضي المقرر، والنيابة العامة كأجهزة تمتل القضاء في دعوى التعرض بمختلف الإجراءات المتبعة.

عليه سأحاول التطرقفي هذا المطلب من خلال تقسيمه إلى فقرتين، أتناول في (الفقرة الأولى) دور القاضي المقرر في نزاعات التحفيظ العقاري، على أن أتناول في (الفقرة الثانية) دور النيابة العامة في قضايا التحفيظ.

الفقرة الأولى: دور القاضي المقرر في نزاعات التحفيظ العقاري

يعتبر القاضي المقرر، الذي يشكل دعامة أساسية، وركيزة ضمن هيئة الحكم من إحدى خصوصيات قانون التحفيظ العقاري، يتم تعيينه من قبل رئيس المحكمة، لتهيئ قضية معينة أو قضايا معينة،[72] إذ له حق اتخاذ أي إجراء يراه ضروريا، قصد الوصول إلى الحقيقة التي ستمكن المحكمة من البت في القضية.

كما ورد التنصيص على ذلك من خلال الفصل 31 من قانون المسطرة المدنية في فقرته الأخيرة على أنه:”بمجرد تقييد المقال، يعين رئيس المحكمة حسب الأحوال قاضيا مقررا أو قاضيا مكلفا بالقضية”.[73] وذلك حسب ما إذا كانت القضية خاضعة للمسطرة الكتابية أو الشفوية.

وإذا رجعنالمقتضيات الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 في فقرته الأخيرة على أنه:”…ويعين رئيس هاته المحكمة في الحين قاضيا مقررا يكلف بتحضير حل للنزاعات المثارة بسبب طلب التحفيظ”.

وبمقارنة هذين النصين، يتضح أن قضايا التعرض على مطلب التحفيظ، وبخلاف القضايا المرفوعة إلى المحكمة الابتدائية، تتميز بوجود قاض مقرر يكلف بتحضير القضية، بالإضافة إلى القاضي المكلف الذي سيبت في الموضوع، وإن كانت المحاكم لا تعير لهذا التمييز أية أهمية فتجعل من القاضي المكلف قاضيا مقررا.[74]

لقد أثير أن ظهير التحفيظ لم يحل على قانون م.م في ذلك بل أوجد مسطرة خاصة بين فيها اختصاصات القاضي المقرر[75].

ويرجع ذلك لأهمية الدور الذي يقوم به القاضي المقرر لتحضير القضية، فقد أناطه ظ.ت.ع بصلاحيات واسعة، حيث يمكنه استنادا إلى مقتضيات الفصل 34 منه، الاستماع إلى الشهود، وأن يتلقى بمكتبه أو يستصدر جميع التصريحات أو جميع الشهادات، ويتخذ جميع الإجراءات التي يراها مفيدة لتتميم المسطرة، بما في ذلك القيام بإجراءات التحقيق المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية[76].

كما يمكنه إما تلقائيا، وإما بطلب من الخصوم أن يقف على عين العقار الجاري فيه التحفيظ ليقوم بتطبيق الرسوم عليه، وهو ما جاء به قرار المجلس الأعلى سابقا ( محكمة النقض حاليا)قضى بما يلي:”للتأكد من الحدود الفاصلة بين ملكين في إطار مسطرة البث في التعرضات، لا بد للمحكمة من إجراء الأبحاث المفيدة بعين المكان، ولا يكفي في ذلك الاستنتاج والقول بأن المتعرض لا يحق له أن يدعى تملكه ما بعد الحدود المشهود بها في ملكيته”[77].

وهو ما كرسه أيضا القرار الصادر عن المجلس الأعلى(محكمة النقض حاليا) بتاريخ 6-10-2004[78]، والذي نقض قرارا لاستئنافية وجدة[79] بسبب مخالفته للفصل 34 من ظهير 25 غشت 1954، ذلك أن القرار يتعلق بمسطرة التحفيظ والفصل المذكور يوجب على القاضي المقرر أن يتخذ جميع الإجراءات المناسبة إما تلقائيا، أو بطلب من الخصوم، الوقوف على عين المكان لمطابقة الرسوم، والمحكمة لم تكلف نفسها عناء ذلك، ولم تستمع إلى الشهود والجيران وذلك بمساعدة مهندس مساح… الأمر الذي يعتبر معه القرار خارقا لتلك المقتضيات مما عرضه بالتالي للنقض والإبطال”.

وتجدر الإشارة أن إجراء البحث في عين المكان قبل البت في الدعوى عمل اختياري، موكول للمحكمة طبقا للفصل 34 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14.

وأن عدم إجرائه لا يعيب الحكم[80]، ولأدل على ذلك صيغة الإمكان لا الوجوب التي جاء بها الفصل المذكور،ومع ذلك يصبح هذا الإجراء ضروريا في بعض الحالات، على أساس أن القاضي المقرر لا يمكنه معرفة مدى انطباق الرسوم على واقع العقار من عدمه، إلا عن طريق المعاينة، وبالتالي فإن عدم القيام بها يؤدي إلى نقض الحكم كما هو الشأن في قرار المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا) أعلاه.

وبالنظر إلى ما يقوم به القاضي المقرر في نزاعات التحفيظ، فإن الأستاذ محمد خيري قد شبهه بدور قاضي التحقيق[81]، إذ له الحق في اتخاذ أي إجراء ضروري يوصل إلى الحقيقة التي ستمكن المحكمة من البث في النزاع.

وبعد أن تصبح القضية جاهزة للحكم، يعمد القاضي المقرر إلى إخبار الأطراف، قبل موعدها بثمانية أيام على الأقل، مضافا إليها مهلة المسافة بالموعد الذي ستعقد فيه المحكمة جلسة علنية للنظر في القضية، مع تذكيرهم أن من حقهم حضورها شخصيا أو بواسطة وكيل خاص حسب مقتضيات الفصل 35 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14.

إلا أن هذا النص لم يشر إلى إصدار أمر بالتخلي على خلاف الفصل 335 من قانون المسطرة المدنية الذينص على أنه:”إذا تم تحقيق الدعوى أو إذا انقضت آجال تقديم الردود واعتبر المقرر أن الدعوى جاهزة للحكم، أصدر أمرا بتخليه عن الملف…”، مما طرح التساؤل حول إلزامية إصدار أمر بالتخلي في قضايا التحفيظ العقاري، فبالرجوع إلى العديد من الأحكام القضائية، لا يظهر موقف واضح، إذ أن بعضالأحكامتشير إلى إصدار أمر بالتخلي، وبالرجوع إلى أحكام أخرى لا وجود إلى إصدار أمر بالتخلي.

لقد ذهب المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا)، للالتزام بحرفية الفصل 35 من ظهير التحفيظ عدل وتمم بقانون 07-14 متعلق بتحفيظ العقاري، الذي لا يشير إلى إصدار أمر بالتخلي، بدل مقتضيات الفصل 335 من المسطرة المدنية باعتبار النص الخاص أولى بالتطبيق من النص العام، إذ جاء في إحدى قراراته:”ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بمسطرة التحفيظ لا يشترط اتخاذ الأمر بالتخلي”[82].

وعلىعكس الأستاذ خالد مداوي[83] الذي يرى أن القاضي المقرر عندما يعتبر القضية جاهزة للحكم يصدر أمرا بالتخلي، فإن أستاذ عبد العزيز حضري[84]، يعتبر هذا الإجراء غير ضروري، وسنده في ذلك أن عدم صدور الأمر بالتخلي، لا يعيب الحكم حتى في المواد العادية[85]، التي تحكمها مقتضيات الفصل 335 من قانون المسطرة المدنية والتي تشير إلى اتخاذ مثل هذا الإجراء من قبل المقرر، وبالأحرى في قضايا التحفيظ التي لا تشير إلى إصدار أمر بالتخلي.

بدوري أساند هذا الرأي الأخير على أساس أن الفصل 35 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، وكذا الفصل 44 منه، أشار إلى الإخبار، وهذا لا يعني بالضرورة صدور أمر بالتخلي.

ولم يقتصر الخلاف بين ظهير التحفيظ العقاري وقانون م.م،على مستوى صدور أمر بالتخلي، بل أيضا على مستوى إعداد التقرير، وتلاوته، ذلك أن الفصل 37 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 نص على أنه:” عند افتتاح المناقشات يعرض المقرر القضية، ويعين المسائل التي تتطلب حلا…”، فهذا النص لا يشير إلى إعداد المقرر للتقرير، وكذا تلاوته على خلاف الفصل 342 من قانون المسطرة المدنية الذي ينص على أنه:”يحرر المستشار المقرر في جميع القضايا التي أجري فيها تحقيق طبقا للفصلين 334 و 335 تقريرا مكتوبا يضمن فيه ما حدث من عوارض في تسيير المسطرة…”.

وبمقارنة الفصلين يلاحظ أن قضايا التحفيظ العقاري، لم تتم الإشارة فيها إلى إعداد تقرير من طرف المقرر من عدمه، وما إذا كان مكتوبا أم شفويا، وهل يلزم تلاوته بالجلسة.

ففيما يخص إعداد التقرير، فإن جميع الأحكام التي تمكنت من الاطلاع عليها، وإن كان البعض[86] يرى أنه بالرغم من أن الفصل 37 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 لا يشير صراحة إلى إعداد تقرير، إلا أنه أشار إلى أن المقرر يعرض القضية، ولا شك أن عرض القضية يقتضي إعداد تقرير عنها.

كما أن العمل جرى على إعداده استئناسا بالتقرير الذي يعده المستشار المقرر استنادا إلى الفصل 45 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 الذي نص على أنه “…تفتتح المناقشات بتقرير المستشار المقرر الذي يعرض القضية والمسائل المطلوب حلها من غير أن يبدي أي رأي…”.

وباعتبار التقرير الأساس الذي ستعتمد عليه المحكمة، فإنه ينبغي أن يحرر كتابة، ويضمنه المقرر ما حدث من عوارض أثناء سير المسطرة، ويحلل فيه الوقائع والتعليلات القانونية التي أدلى بها الخصوم، مع بيان النقط التي يجب الفصل فيها، دون إبداء رأيه، وعموما ينبغي أن يكون التقرير جامعا، مانعا، لدرجة تجعل المحكمة في غنى عن أي بحث آخر[87].

وبعد إعداد التقرير يثار النقاش حول إلزامية تلاوته أثناء الجلسة، هذه المسألة التي عرفت تضاربا على مستوى اجتهادات محكمة النقض، حيث يعتبرها تارة من حقوق الدفاع[88]، في حين اعتبرها في قرار آخر[89]، إجراءً غير جوهري، ولا يترتب عنها البطلان إلا عند ثبوت الضرر، بل اعتبر في إحدى قراراته[90] أن تلاوة التقرير إجراء غير جوهري، حتى على مستوى محاكم الاستئناف، إلا أنه في قرار آخر[91] اعتبره إجراء جوهريا إذ جاء فيه:”لكن حيث إن المحكمة بمقتضى الفصل 45 من الظهير المتعلق بالتحفيظ العقاري يتعين عليها أن تبتدئ مناقشة الدعوى بتلاوة المستشار المقرر لتقريره، وأن هذا الإجراء نظمه نص خاص لم يترك أي خيار فيما يتعلق بتلاوة التقرير المذكور…”.

واعتقد أن هذا التوجه الأخير لمحكمة النقض أجدر بالتأييد، استنادا إلى الصيغة التي جاء بها الفصل 45 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، والتي تفيد الإجبار لا الخيار، إذ لو كان قصد المشرع، جعل هذا الإجراء غير ضروري لا ستعمل عبارة “عند الاقتضاء” كما فعل في القضايا المدنية العادية، في الفصل 345 ق.م.م، كما أنه ما جدوى إعداد تقرير إن لم تقع تلاوته في الجلسة، خاصة وأنه يمكن أطراف النزاع من تقييم الإجراءات المتخذة من طرف المقرر.

يبقى القول بأن عمل القاضي جد مهم في الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي لابد من تلاوة هذا العمل حتى تتمكن الأطراف المعنية من استجلاء مكامن الخلل أو النقص التي تعتبر من العوارض التي قد يتعرض لها العمل البشري.

لقدتطرقتبالخصوص إلى دور القاضي المقرر في قضايا التحفيظ العقاري، يبقى معرفة دور النيابة العامة في هذه القضايا. وهذا ما سيكون موضوع الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية: دور النيابة العامة في قضايا التحفيظ العقاري

إلى جانب الدور الرئيسي الذي تطلع به النيابة العامة أو القضاء الواقف، حيث تعمل إلى جانب قضاء الحكم، لكون طبيعة العمل القضائي تتطلب ذلك، وتتمثل الوظيفة الأساسية للنيابة العامة في الدفاع عن الصالح العام والمتمثل في الاعتراف لها بإقامة الدعوى العمومية، فإنها تناط بها عدة اختصاصات أخرى لا تقل أهمية عن اختصاصها الأصيل لكن هذه المرة في إطار الميدان المدني[92] الذي يرتبط بمسائل تمس جهة الحق العام وحقوق المجتمع خاصة حقوق القاصرين وحقوق الدولة والمؤسسات العمومية.

والنيابة العامة تمارس هذا الدور المدني بطريقتين إما عن طريق تدخلها كطرف منضم وذلك في الحالات التي حددها المشرع في ق.م. م[93]، أو كطرف رئيسي وذلك في الحالات الخاصة التي حددها القانون. وهو الأمر الذي أعاد تأكيده المشرع من خلال ظهير التحفيظ العقاري، الذي أجاز للنيابة العامة أن تتدخل في دعاوي التحفيظ العقاري كطرف منضم[94] أو كطرف رئيسي[95].

وبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 8 من قانون المسطرة المدنية، نجد أن المشرع خول للنيابة العامة حق التدخل كطرف منضم وبصفة اختيارية وذلك في الحالات التي تطلب فيها ذلك اطلاعها على الملف أو عندما تحال عليها القضية تلقائيا من طرف القاضي[96].وحسب بعض الفقه[97]، فالنيابة العامة بهذه الصفة لا تكون خصما لأحد وإنما تتدخل لتبدي رأيها لمصلحة القانون والعدالة.

ولهذا فإن على النيابة العامة أن تتخذ الحذر الشديد حتى لا تتدخل إلا عندما يكون تدخلها مبرر تمليه مصلحة العدالة وحماية القانون، لا المصلحة الشخصية للأطراف التي يجب أن تبقى بمنأى عن أي تدخل.

وحسب مقتضيات الفصل 8 السالف الذكر فإن تدخل النيابة بصفة اختيارية يكون في حالتين:

  • الحالة الأولى: تتجلى في حالة طلبها التدخل في الدعوى بعد اطلاعها على الملف.
  • الحالة الثانية: عند إحالة القضية تلقائيا من طرف القاضي عليها.

فبالنسبة للحالة الأولى التي تتدخل فيها النيابة العامة بصفة اختيارية عندما تطلب ذلك بعد اطلاعها على الملف قد يكون من أجل إبدائها لرأيها في الدعوى والذي يكون رأيا محايدا لوجهة نظر الخصوم، كما قد تدلي برأيها في المبادئ القانونية المتصلة بموضوع الدعوى، باعتبارها جهة الحق العام وبالتالي يحق لها إبداء وجهة نظرها في الموضوع وتقييم مدى مساس وضعية الملف بحقوقها من عدمه ولا يمكن لأية جهة أن تمانع او تعارض في إحالة الملف عليها في حالة مطالبتها به اعتمادا على فكرة عدم اختصاصها، فاختصاص النيابة العامة استنادا لوضعيتها القانونية وباعتبارها جهازا يمثل الحق العام والمجتمع يحق لها المطالبة بأي ملف في أي مرحلة لتبدي وجهة نظرها في موضوعه أو تقوم بإرجاعه في حالة التأكد من أن حقوقها لم تمس بأي وجه[98].

أما بالنسبة للحالة الثانية التي تتدخل فيها النيابة العامة كطرف منضم وبصفة اختيارية فتكون عندما تبلغ إليها القضية تلقائيا من طرف المحكمة وذلك كلما كانت المصلحة العامة تفرض اطلاعها على الملف.

وبناءا على ما سبق، فالنيابة العامة يمكن لها التدخل في أي دعوى ومنها دعاوي التحفيظ العقاري باعتبارها دعاوي مدنية، كلما رأت أن المصلحة العامة تقتضي هذا التدخل من أجل إبداء رأيها في الموضوع. وبالتالي فاقتصارها على توجيه ملتمس يرمي إلى تطبيق القانون هو تدخل لا يحقق أي نتيجة في نظري، ما دام هدف الجهاز القضائي بصفة عامة هو تطبيق القانون داخل المحاكم، لذلك يجب أن يكون تدخل النيابة العامة تدخلا فعالا وإيجابيا وذلك من خلال تقديمها لملتمسات منطقية ومؤثرة في القضية عوض اقتصارها على هذا الإجراء الشكلي.

ولقد حدد في الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية،مجموعة من الدعاوى التي تبلغ وجوبا إلى النيابة العامة، إلا أنه بالرجوع إلى من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، لا وجود لمثل هذا الفصل، بل هناك فقط الفصل 26[99] منه الذي منح النيابة العامة إمكانية التدخل في النزاع المتعلق بالتحفيظ عن طريق التعرض باسم الأشخاص المحجورين والغائبين والمفقودين والغير الحاضرين، وهو ما كرسهالحكم القضائي.

أثناء جريان دعوى منازعات التحفيظ، قد يحدث أن يطعن أحد الأطراف في أحد المستندات المقدمة للمحكمة بالزور الفرعي، وحسب مقتضيات الفصل 92 من قانون المسطرة المدنية، فإن موقف المحكمة لا يخلو من أمرين، فإذا كان الفصل في الدعوى لا يتوقف على المستند المطعون فيه بالزور، صرفت المحكمة النظر عن ذلك، وإذا تبين لها خلاف ذلك أنذرت المحكمة الطرف الذي قدمه ليصرح بما إذا كان يريد استعماله أم لا. فإذا صرح بعد إنذاره أنه يتخلى عن استعمال المستند، أو لم يصرح بشيء بعد ثمانية أيام، أبعد المستند من الدعوى.[100]

لكن إذا صرح الطرف الذي وقع إنذاره أنه ينوي استعمال المستند،[101] أوقفت المحكمة الفصل في الطلب الأصلي وأمرت بإيداع أصل المستند المدعى فيه بالزور لاختبار نواياه، وبإيداع أصل المدعى فيه بالزور لدى كتابة ضبط المحكمة.[102]

ودعوى الزور لا تقبل إلا إذا توافرت شروطها والتي من بينها الشروط المطلوبة لرفع الدعوى عموما من أهلية وصفة ومصلحة، إضافة إلى شروط خاصة، تتمثل في أن ينصب الادعاء بالزور الفرعي على مستند قدم أثناء سريان الدعوى، وأن يكون المستند منتجا في موضوع الدعوى، وأن يكون جديا.

فإذا قضت المحكمة بوجود الزور، فإنه يكون لمدعيه إبلاغ النيابة العامة قصد تحريك الدعوى العمومية بالزور إذا أصبح مرتكبه معروفا، وأن يتم هذا التحريك عن طريق الادعاء المباشر[103].

أما بخصوص الالتزام الحرفي بمقتضيات الفصل 37 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14، تجعلنا نقول أن تقديم النيابة العامة لمستنتجاتها غير إلزامي، استنادا إلى العبارة التي جاء بها هذا الفصل، الذي أشار إلى تقديم ممثل النيابة إن اقتضى الحال استنتاجاته، فعبارة إن اقتضى الحال تفيد عدم إلزامية تقديمها،وهو ما جسده القضاء إذ جاء في قرار للمجلس الأعلىسابقا (محكمة النقض حاليا)[104] :”إن الفصل 45 من الظهير التأسيسي بشأن التحفيظ لا يوجب على النيابة العامة أن تقدم في قضايا التحفيظ ملتمسات كتابية”.

فهذا القرار وإن كان يتعلق بالمرحلة الاستئنافية، فإنه من باب أولى أن يطبق أمام المحكمة الابتدائية، لأن الفصل 45 من ظهير التحفيظ جاء بصيغة أكثر إلزاما من الفصل 37 سالف ذكر، حيث إنه لم يشر إلى عبارة عند الاقتضاء، بل جاء فيه “…ويقدم ممثل النيابة العامة استنتاجاته…”.

إلا أن القضاء قد دأب على تبليغ النيابة العامة كلما تعلق الأمر بالدعاوى المنصوص عليها في الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية، وذلك بالرغم من أن ظهيرالتحفيظالعقاري لم يشر إلى ذلك، وعلى سبيل المثال ما جاء به القرار الصادر عن المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا) بتاريخ 6-10-2004 والذي نقض قرارا صادرا عن محكمة الاستئناف بالجديدة بتاريخ 3-7-2003 بسبب إغفال المحكمة الابتدائية إحالة الملف على النيابة العامة، ورغم تدارك هذا الإجراء من طرف محكمة الاستئناف فإن المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا) اعتبر هذا الإغفال بمثابة خرق للفصل 9 من قانون المسطرة المدنية[105].

 إذ جاء فيه :”حيث صح ما عابته الطاعنة على القرار، ذلك أنه اعتمد في قضائه على أنه إذا كانت محكمة البداية قد أغفلت إحالة الملف على النيابة العامة فإن المحكمة الآن تداركت الأمر إذ أحالته على النيابة العامة فأدلت هذه الأخيرة بمستنتجاتها، وأن النيابة العامة وحدة لا تتجزأ.

في حين أن إحالة الملف على النيابة في مرحلة الإستئناف لا يغني عن إحالة الملف عليها في المرحلة الابتدائية سيما وأن الدولة المغربية (الملك الخاص) طرف في النزاع مما يكون معه بذلك القرار المطعون فيه قد خرق مقتضيات الفصل 9 من ق.م.م فتعرض بذلك للنقض والإبطال”.

فهذا القرار وإن كان يتعلق بقضايا التعرض على مطلب التحفيظ، والتي لا وجود فيها لنص يلزم تبليغ النيابة العامة إذا كانت الدولة طرفا في الدعوى، فإن محكمة النقض قد استند إلى الفصل 9 من قانون سالف الذكر للقول بإلزامية تبليغها.

ونفس التوجه سار فيه المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا) في القضايا التي يكون أحد أطرافها قاصرا، حيث رتب على عدم تبليغ النيابة العامة بالدعوى التي يكون طرفا فيها بطلان الحكم، ولو أنه لم ينقض هذه الأحكام، لأن الطاعنين لم يبينوا من هم هؤلاء المحاجر الذين كانوا أطرافا في الدعوى، وهل من الفريق الطاعن أم من الفرقاء الآخرين حتى يراقب محكمة النقض ما إذا كانت المحكمة ملزمة بتبليغ الملف إلى النيابة العامة، وما إذا كان للطاعنين الصفة والمصلحة في إثارة هذه المسألة…أو لأن الإجراء المنصوص عليه في المادة 9 من قانون م.م قرر لمصلحة القاصر، وأن هذه الأخيرة لم تتضرر مما قضت به المحكمة ولا مصلحة للطاعن في إثارته لتعلقه بالغير.[106]

كما أن محكمة الاستئناف بالناظور[107] اعتبرت أن تبليغ النيابة العامة، من أجل الإدلاء بمستنتجاتها إلزامي في قضايا التحفيظ، إذا تعلق الأمر بقضايا الزور الفرعي، استنادا إلى الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية.

وأعتقد أن هذا التوجه الذي سارت فيه هذه الأحكام القضائية صائبة، على أساس أن هناك بعض النصوص كما سبق القول التي جاء بها قانون مسطرة المدنية، تبقى واجبة التطبيق دون حاجة للإحالة عليها، ومنها الفصل 9 من قانون سالف ذكر، وبالتالي يجب تبليغ النيابة العامة، كلما تعلق الأمر بالدعاوى المنصوص عليها في الفصل أعلاه، لما في ذلك من مصلحة للمتقاضين، وكذا خدمة للعدالة.

وبالرجوع إلى الواقع العملي داخل المحاكم نجد أن المحكمة لا تميز بين ما إذا كانت النيابة العامة طرفا أصليا أو طرفا منضما بحيث تبليغ إليها الملفات برمتها وهو عمل يستمد أساسه حسب رأي أحد الفقهاء من الامتياز الذي للنيابة العامة بصفتها ممثلة للمصلحة العامة، ولو كانت طرفا رئيسيا مثل الامتياز الذي تتمتع به عند جلوس ممثلها في مقعد النيابة العامة بدلا من الوقوف بجانب الخصم العادي.[108]

ومن القواعد التي تحكم أيضا تدخل النيابة العامة في دعاوي التحفيظ، نجد قاعدة الحضور الجلسات، بحيث أن حضورها في الجلسة غير إلزامي إذا كانت طرفا منضما، إلا إذا كانت طرفا رئيسيا أو كان حضورها محتما قانونا.[109] أما حضورها أمام محكمة النقض فإنه يكون إلزاميا دائما سواء كانت طرفا أصليا أو منضما وهو ما قرره الفصل11من ظهير التنظيم القضائي.

إذا كان المشرع قد منح للنيابة العامة دورا مهما وإيجابيا في النزاعات المدنية عامة، ونزاعات التحفيظ العقاري خاصة في شقها القضائي، باعتبارها جهة لها مكانة متميزة داخل الجهاز القضائي.[110]

يكتسي هذا الدور أهمية بالغة، باعتبار ما تساهم به من أراء ومستنتجات وملتمسات تساعد في تفسير النصوص القانونية، وفي صياغة وخلق اجتهاد قضائي جديد، يساير الدور الاقتصادي والتنموي الذي يضطلع به القطاع العقاري بالمغرب.

بعد تلاوة المقرر لتقريره، وتقديم النيابة العامة لمستنتجاتها عند الاقتضاء، ينبغي على المحكمة إصدار الحكم، ثم تبليغه للأطراف، فهل من خصوصية على هذا المستوى في قضايا التحفيظ؟ هذا ما سيكون موضوع المطلب الثاني.

المطلب الثاني: قواعد إصدار الأحكامالقضائية في مادة التحفيظ العقاري وتبليغها

إذا كان ظهير التحفيظ العقاري لم ينظم البيانات الإلزامية التي يلزم مراعاة أثناء تحرير الحكم، أمام غياب قانون مسطري خاص بمادة التحفيظ، الذي يطرح التساؤل حول إمكانية تطبيق قانون المسطرة المدنية في حالة سكوت ظهير التحفيظ عن تنظيم مسألة مسطرية معينة، ذلك في حين أن قانون المسطرة المدنية قد حدد البيانات الإلزامية التي يلزم مراعاتها أثناء تحرير الحكم، وذلك في الفصل 50 منه بخصوص الأحكام الابتدائية، وكذا الفصل 345 بالنسبة للقرارات الاستئنافية، والفصل 375 بالنسبة لقرارات محكمة النقض.

وقد نظم تبليغ الحكم بمقتضى مسطر خاصة، منصوص عليها في الفصل 40 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14،[111] غير أن هذا التنظيم لم يكن شاملا، الأمر الذي طرح الاستعانة بمقتضيات قانون المسطرة المدنية لسد النقص التشريعي الحاصل.

من هذا المنطلق سأعالج من خلال هذا المطلب، والذي قسمته إلى فقرتين، بحيث أتطرق إلى صياغة الحكمالعقاري ومضمونه (الفقرة الأولى)،ثم التطرق إلى مسطرة تبليغ الأحكام في دعوى التحفيظ العقارية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: صياغة الحكم ومضمونه

ينحصر مهام المحكمة في أداء وظيفة وذلك بالتحقيق في الوقائع وتطبيق أحكام القانون على ما ثبت منها تمهيدا لإصدار حكم في موضوع[112]، ولما كان الحكم القضائي هو نتاج الدعوى، فقد أوجب المشرع في قانون المسطرة المدنية تحرير الحكم وفق الصيغة القانونية المحددة مع احتوائه على كافة البيانات الإلزامية التي اشترطها الفصل 50 من ق. م. م بخصوص الأحكام الابتدائية وكذا الفصل 345 من ق. م. م، بالنسبة للقرارات الاستئنافية، وإضافة إلى هذه البيانات الإلزامية والتي يترتب على تخلفها بطلان الحكم وفقدان قيمته كورقة رسمية، فإن الحكم يجب أن يتضمن أجزائه الرئيسية من وقائع وأسباب ومنطوق وأن يكون معللا[113]، غير أنه بالرجوع إلى نصوص ظهير التحفيظ العقاري لا وجود لمقتضيات مماثلة، مما يطرح التساؤل حول ما إذا كان سكوت المشرع يفيد استبعاده لهذه البيانات؟أم يجب تطبيق قواعد المسطرة المدنية باعتبارها الشريعة العامة، خاصة وأن الفصل الثالث من ظهير المصادقة على قانون المسطرة المدنية (ظهير 28 شتنبر 1974) ينص صراحة على أنه :”تطبق مقتضيات هذا القانون حتى في القضايا التي تنظمها نصوص تشريعية أو تنظيمية خاصة، إذا لم يرد في هذه القوانين نص صريح خاص بها”.

بالرجوع إلى اجتهادات القضائية يلاحظ أنها غير مستقرة إذ أحيانا لا تنقض الأحكام رغم عدم احترامها بيانات الفصل 50 من ق.م.م، إذ جاء في قرار للمجلس الأعلى(محكمة النقض)[114]:”إن الظهير المؤرخ في 12 غشت 1913 لا يحيل صراحة إلى الفصل 189 من قانون المسطرة المدنية القديم (الفصل 50 من ق.م.م الجديد) مما يجعل تطبيق هذا الفصل غير لازم في قضايا التحفيظ”.

وفي قرار آخر للمجلس الأعلى(محكمة النقض) جاء فيه:”حيث يعيب الطاعن القرار فيها بخرق مقتضيات الفصل 345 من ق.م.م وحقوق الدفاع ذلك أنه لم يحمل جميع البيانات التي حملها الحكم الابتدائي…لكن حيث إن عدم إشارة القرار لها لا تأثير له على سلامته…”[115].

وقد صادفت حكما لابتدائية الحسيمة بخصوص مطلب التحفيظ عدد 3406/24 المقدم لدى المحافظة العقارية بنفس المدينة بتاريخ 17/3/1999، والذي كان موضوع تعرض بتاريخ 3-9-1999، ولم يشر هذا الحكم إلى رقم الحكم وعدد الملف وتاريخه، كما أنه لم يشمل هيئة المحكمة.

إلا أنه بالرجوع إلى اجتهادات أخرى، يلاحظ أنها تنقض الأحكام التي لا تحترم البيانات المنصوص عليها في الفصل 50 من ق.م.م، إذ جاء في قرار للمجلس الأعلى: “كل الأحكام يجب أن تكون معللة، وأن تفي بنفسها الأغراض المطلوبة منها، وعليه فإن المحاكم المكلفة بالفصل في قضايا التحفيظ العقاري ليست معفاة بالرغم من سكوت ظهير 12 غشت 1913 من تبرير أحكامها، ومن الخضوع لمقتضيات المسطرة المفروضة والتي تعتبر من النظام العام[116]، وفي قرار آخر[117] جاء فيه أن الإشارة إلى الأطراف تعتبر من البيانات الإلزامية المنصوص عليها في الفصل 345 من ق.م.م وإغفال الإشارة إليهم أو إلى أحدهم يعتبر خرقا لمقتضيات الفصل المذكور.

وعلى مستوى محاكم الموضوع يوجد قرار لمحكمة الاستئناف بالناظور[118]، أبطل حكما لابتدائية نفس المحكمة بسبب عدم ذكر اسم كاتب الضبط الذي حضر الجلسة، إذ جاء فيه:”فيما يتعلق بالسبب المثار تلقائيا من طرف المحكمة لتعلقه بالنظام العام:بناء على مقتضيات الفصل 50 من ق.م.م.

حيث إن الفصل المذكور صريح في أنه تصدر الأحكام في جلسة علنية وتحمل في رأسها العنوان التالي: المملكة المغربية باسم جلالة الملك واسم كاتب الضبط…

حيث تبين لهيأة المحكمة من خلال الاطلاع على النسخة المشهود على مطابقتها للأصل من الحكم المستأنف الصادر عن المحكمة الابتدائية بالناظور بتاريخ 13/11/1998 في الملف العقاري عدد 96/01 أنها لا تشتمل على اسم كاتب الضبط…

حيث إن البيانات المنصوص عليها في الفصل 50 المذكور من البيانات الإلزامية التي يجب أن يتضمنها كل حكم وأن الإغفال عنها أو عن أحدها يجعل الحكم باطلا…”.

ومن أهم مميزات قواعد المؤثرة في اصدار الحكم، هو اجراءات المداولة التي تتم في سرية مع عدمحضور الأطراف، ومن ثم يمنع على القضاة الذين شاركوا في المداولة أن يفشوا الآراء التي دارت بشأن الملف موضوع المداولة، كما لا يجوز أن يحضر الأطراف والنيابة العامة أثناء المداولة، لأنها تقتصر على قضاة الحكم، الذين منحهم القانون فرصة تكوين قناعتهم في كل قضية والتعبير عنها في المداولة.[119]

وتتخذ المداولة عدة صور حسب نوع القضية، فقد تتم مباشرة بعد مراجعة الأوراق، بل ويصدر الحكم على الفور إذا كانت القضية بسيطة، وقد تحتاج القضية إلى بعض الوقت للوصول إلى الرأي الغالب، إذا كانت من النوع غير البسيط، بحيث يقتضي الأمر من رئيس الهيأة رفع الجلسة للمداولة لبضع دقائق قبل إصدار الحكم.

أما إذا كانت القضية مستعصية وتستلزم وقتا طويلا للمداولة فيها أجلت المحكمة الحكم في القضية إلى تاريخ لاحق، ليتسنى للقضاة مراجعة الوثائق والمستندات بكل دقة.وتنطبق هذه الصورة على التأمل، إذ متى كانت القضية بسيطة يبت فيها القاضي في الجلسة نفسها، وإذا كانت تحتاج إلى الوقت لأجل النطق بالحكم إلى تاريخ لاحق.

والفرق بين المداولة والتأمل، أن الأولى تتم بين ثلاثة قضاة في المحكمة الابتدائية والاستئنافية حسب الفصل 345 من ق. م. م، وخمسة قضاة في محكمة النقض حسب الفصل 371 من ق. م. م، بينما يتم التأمل من طرف قاضي واحد كلما تعلق الأمر بالقضايا التي تبت فيها المحاكم الابتدائية بقاض منفرد.[120]ونص الفصل 343 من ق. م .م في فقرته الأولى على أنه:” يأمر الرئيس بجعل القضية في المداولة بعد انتهاء المناقشة، والاستماع عند الاقتضاء للنيابة العامة في مستنتجاته الكتابية أو الشفوية”.

بينما نص الفصل 37 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بقانون 07/14 في فقرته الأولى على أنه:” عند افتتاح المناقشات يعرض القاضي المقرر القضية ويعين المسائل التي تتطلب حلا دون أن يبدي أي رأي ثم يقع الاستماع إلى الأطراف ويقدم ممثل النيابة العامة إن اقتضى الحال مستنتجاته، ثم يفصل في القضية إما في الحين وإما بعد المداولة”. كما نص الفصل 45 من ظهير السالف الذكر في فقرته الأولى على أنه:”…. وتبت محكمة الاستئناف في القضية إما في الحين أو بعد المداولة….”.

وإن المداولة جعلها المشرع من خلال ظهير التحفيظ إجراء اختياريا سواء في المرحلة الابتدائية أو الاستئناف، حيث أجاز للمحكمة إصدار الحكم في الحين أو بعد المداولة، وذلك خلافا لما هو منصوص عليه في قانون المسطرة المدنية، ولعل الهدف الذي توخاه ظهير التحفيظ العقاري هو تحقيق الأمن العقاري، الذي يتجسد من خلال البت في التعرضات، مع العلم أن مثل هذه القضايا هي التي يلزم أن تكون فيها المداولة إجبارية بالنظر إلى أهميتها من جهة، وبالنظر إلى الحجية المطلقة لقرار التحفيظ[121] وذلك حتي لا يتم تأسيس رسم عقاري نهائي لا يعتبر عنوانا للحقيقة.

مما سبق يظهر أنه لا وجود لموقف قضائي قار، بخصوص تطبيق الفصل 50 والفصل 345 من قانون م.م في قضايا التحفيظ، ذلك أن المحكمة لا تستبعدهما، إذا تعلق الأمر بخرق لمقتضى جوهري وارد في النصين، كما في حالة عدم تعليل الحكم، في حين إذا تعلق الأمر بمقتضى غير جوهري كما في حالة عدم ذكر أسماء الأطراف، فإنها ترى أنه لا مانع من استبعاد مقتضيات الفصلين المذكورين[122].

واعتقد أن هذا الموقف غير مبرر، لأنه لا وجود لمقتضيات جوهرية وأخرى لا في الفصلين، بدليل أن المشرع، أوجب ذكر جميع هذه البيانات في الحكم أو القرار القضائي دون تمييز بينها، وحتى لوقلنا جدلا أن ظهير التحفيظ العقاري، بعدم إحالته على الفصلين أعلاه، قد استهدف استبعادهما حتى يحقق السرعة ويبعد هذه القضايا من التعقيدات والشكليات المنصوص عليها في الفصلين[123]، فإنه سيترتب على عدم احترامهما بعض الصعوبات التي ستفرغ هذا الهدف من محتواه، كما في حالة عدم ذكر اسم أحد الأطراف في الحكم، فكيف يمكنه الطعن في الحكم الصادر ضده إن لم يكن اسمه مذكورا به؟ وكيف ستتمكن المحكمة من مراقبة مدى توفر شروط الطعن في الطاعن، وهل يمكنها رفض طعنه على أساس أنه ليس طرفا في الدعوى؟هذا عن خصوصية إصدار الأحكام في قضايا التحفيظ العقاري، فماذا عن خصوصية التبليغ؟.

الفقرة الثانية: تبليغ الحكم القضائي

إذا كان لقواعد تبليغ القرار الفاصل في نزاع التحفيظ العقاري جوانب ايجابية تميزها عن تبليغ الأحكام بصفة عامة فإن لها كذلك جوانب سلبية الأمر الذي يجعلها قاصرة على مباشرة الدور الفاعل في حماية الملكية العقارية.

ما يمكن قوله بخصوص تبليغ الأحكام العقارية أنه يتميز بنوع من الخصوصية وتتجلى من خلال تحديد أجل لتبليغ لأحكام في قضايا التحفيظ العقاري، مع إشعار الشخص وفق مساطر محددة قانونا بوقوع إجراء مسطري في مواجهته،[124] كتقييد دعوى أو صدور تبليغ حكم قضائي، وبذلك فهو عماد المسطرة، وإجراء جوهري من إجراءاتها، يلازم الدعوى من بدايتها، تبليغ الاستدعاء إلى نهايتها، تبليغ الحكم، وتكمن أهمية التبليغ في تمكين الأطراف من العلم بمختلف مراحل الدعوى وإجراءاتها حتى تتحقق الوجاهية وتصان حقوق الدفاع.

وقد نظم ق.م.م [125]تبليغ الأحكام، إذ تبلغ بنسخة كاملة دون تحديد أجل التبليغ، غير أن ظ.ت.عجاء بخصوصية على مستوى التبليغ وذلك في الفصل 40 منه الذي نص على ما يلي:”بمجرد صدور الحكم وعلى أبعد حد خلال مدة لا تتجاوز ثمانية أيام، يبلغ ملخصه إلى طالب التحفيظ وإلى جميع الأطراف في عناوينهم المختارة. وينص في هذا التبليغ على أنه في الإمكان طلب الاستئناف داخل الآجال المقررة في الفصل 226[126] وما بعده من الظهير الشريف المتعلق بالمسطرة المدنية”.

واستنادا إلى كون النص الخاص أولى بالتطبيق من النص العام، فإن المقتضيات الخاصة التي جاء بها ظهير التحفيظ العقاري هي الواجبة التطبيق، مما يؤكد صراحة استبعاد قواعد المسطرة المدنية فيما يخص الأحكام الصادرة في مادة التحفيظ وهذا ما جسده القضاء في العديد من قراراته إذ جاء في قرار للمجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا)[127]:”إن مقتضيات الفصل 40 من ظهير التحفيظ العقاري التي تنص على كيفية تبليغ الأحكام الابتدائية وآجال استئنافها هي الواجبة التطبيق في قضايا التحفيظ بدلا من المقتضيات الواردة في ق.م.م عملا بمبدأ تقديم النص الخاص على النص العام”.

كما يتعين الإشارة في التبليغ إلى أن بالإمكان الطعن بالاستئناف داخل الأجل المقرر في الفصل 134 من ق.م.م وبالتالي فالتبليغ دون احترام هذا الإجراء يجعل التبليغ غير قانوني، ولا يرتب أي أثرإذ جاء في قرار للمجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا)[128]:”…وأن القرار المطعون فيه لما اعتمد تبليغ حكم ابتدائي صدر في إطار مسطرة التحفيظ، لم يشعر فيه المبلغ إليه على أنه بإمكانه طلب استئنافه داخل الأجل المقرر في ق.م.م واعتبر ذلك التبليغ سليما ورتب عليه عدم قبول الاستئناف فقد خرق مقتضيات الفصل 40 المشار إليها وتعرض للنقض والإبطال.”.

وهوماسارعليه القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالناظور بتاريخ 7/10/2003 الذي جاء فيه:”…فإن التبليغ على فرض صحة وقوعه جدلا فإنه ورد على نحو مخالف لمقتضيات الفصل 40 من ظهير 12 /8/1913 بشأن التحفيظ العقاري الذي نص على قاعدة خاصة لتبليغ الأحكام الصادرة في مادة التحفيظ وهي التنصيص في التبليغ على إمكانية استئناف تلك الأحكام داخل أجل القانوني…”.

إضافة إلى ذلك ينبغي أن يتم التبليغ في مادة التحفيظ بواسطة ملخص الحكم إلى طالب التحفيظ، وإلى جميع الأطراف في عناوينهم المختارة، وهذا ما استقر عليه الاجتهاد القضائي، إذ جاء في قرار للمجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا)[129]:”بمقتضى الفصل 40 من ظهير التحفيظ العقاري فإنه يتعين لبداية سريان أجل الاستئناف أن يبلغ ملخص الحكم إلى جميع الأطراف في عناوينهم المختارة…محكمة الاستئناف التي اعتمدت في بداية أجل الاستئناف تبليغا لم يصحب بملخص الحكم، ولم يشر فيه إلى أجل لاستئناف تكون قد خرقت الفصل 40 المذكور وعرضت قرارها للنقض”.

غير أنه إذا كان المشرع قد جاء بخصوصية على مستوى تبليغ الأحكام الصادرة في ميدان التحفيظ العقاري، استهدف ما ورائها التعجيل، إذ حدد اجل التبليغ في ثمانية أيام، فإنه لم يجعله من النظام العام، ولم يرتب أي جزاء على عدم احترامه كما أنه لم يحدد طريقة معينة للتبليغ، الأمر الذي يثير إمكانية الاستعانة بطرق التبليغ المنصوص عليها في ق.م.م وأساسا الفصول 37 و 38 و 39 منه، هذا الأمر الذي أثار تضاربا قضائيا.

إذ أنه بالرجوع إلى بعض قرارات المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا ) لم تطبق قواعد م.م، بل التزمت بحرفية الفصل 40 من ظ.ت.ع، إذ جاء في قرار له[130]:” الظهير المطبق على العقارات المحفظة لا يشترط أي شكل معين للتبليغ، كما أنه لا يحيل على قواعد المسطرة المدنية” كما أنه استنادا إلى نفس الفصل المستدل به أعلاه، استبعد المجلس الأعلى في إحدى قراراته، إمكانية التبليغ بالجلسة.

ومع ذلك فقد استند في إحدى قراراته[131]، إلى مقتضيات الفصل 39 من ق.م.م حيث اعتبر التبليغ باطلا، طالما أن وثيقة التبليغ لا تشير إلى أجل الاستئناف، وإلى من تسلم طي التبليغ.

لكن لا بد من الإشارة أنه رغم صراحة المشرع المغربي إلا ان القضاء وللأسف الشديد لا يحترم هذا الأجل، فهو يتجاوزه بأيام وأسابيع إن لم تكن شهورا نظرا لكثرة الأحكام الصادرة وقلة الإمكانيات وغياب قضاء عقاري متخصص أو عدم تحديد المشرع جزاء على عدم احترامه وعليه نرجو أن يتم الأمر كما نص عليه القانون ويحترم الأجل المذكور، وهكذا يكون إقرار المشرع لأجل قصير لتبليغ الأحكام في قضايا التحفيظ لا فائدة منه مادام هو ممطل من الناحية العملية.

وما يعاب كذلك على هذا المقتضي القانوني هو نصه على تبليغ ملخص عن الحكم بدل النسخة الكاملة، وفي هذا خرق لمقتضيات الفصل 50 من ق. م . م، إضافة إلى عدم تنصيص الفصل 40 من قانون 07-14على البيانات التي جاء بها الفصل 50 من ق سالف الذكر، مع العلم أن لهذه البيانات أهمية بالغة في تبليغ الأحكام عموما، خاصة وأن القضاء المغربي لا يجيز تطبيق القواعد العامة وأكد ضرورة إعمال مقتضيات الفصل 40 من قانون 07-14 في تبليغ الأحكام العقارية.

 مما سبق ذكره، يكتسي التعرض على مطلب التحفيظ أهميةبالغة على المستويين النظري والعملي، خاصة على مستوى الممارسة العملية، وذلك للدور الذي تلعبه التعرضات باعتبارها وسيلة لحماية حق الملكية العقارية، والحقوق العينية العقارية، كما أنها الوسيلة القانونية الوحيدة التي تمكن من يدعي ملكية حق شمله مطلب التحفيظ أن يمارسها لاسترداد حقه.

رغم الجانب الإيجابي للتعرض إلا أنهيؤثر على مسطرة التحفيظ بكاملها عن طريق تجميدها، لأن التعرض يمنع المحافظ من اتخاذ أي قرار بشأن تحفيظ العقار من عدمه قبل البت في التعرضات، بحيث الإجراءات المسطرية لدعوى التحفيظ العقارية، محور الانتقال من مسطرة إدارية في الأصل، إلى مرحلة قضائية.

بعد الحديث علىللضوابط المسطرية لدعوى التحفيظ، يبقى التطرق إلى طرق الطعن في الحكم الصادر في مادة التحفيظ وتنفيذه وهو ما سيكون موضوع الفصل الثاني.

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق